عندما يقرأ أحدنا الجدل الكبير الذي كان بين المعتزلة (مدرسة العقل) وأهل الحديث (مدرسة النّقل) في صدر التاريخ الإسلامي، ويقف على الصراع الذي احتدم بينهم، ثم دخل الأشاعرة حلبة الصراع العقلي، يتساءل: هل كانت المسائل التي تقاتلوا حولها (صفات الله، خلق القرآن، رؤية الله يوم القيامة، قِدَم العالم…) تستحق كل تلك الأرواح التي زُهقت بسببها، والمشكلات الاجتماعية والسياسية التي نتجت عنها؟ فحتى الدولة نفسها دخلت على خط التماس في ذلك المعترك الفكري، فنجد الرشيد يضرب أعناق المعتزلة، ثم يأتي ابنه المأمون فيضيّق على الحنابلة ويزجّ بهم في السجون. لكن، عندما نقرأ التاريخ الذي تلا تلك المرحلة نجده حافلاً بالإنتاجات الفكرية والفلسفية والعلمية لعلماء وفلاسفة مسلمين أناروا الإنسانية لثمانية قرون على الأقل. وعندما كان نيكولا تيسلا ومديره ومعلّمه توماس أديسون يعبثون بالتيار الكهربائي كان الناس يسخرون منهم، وكان البعض يظن بأنهم مجانين، إلا أن «عبثهم» ذاك واجتهادهم، وحتى خلافاتهم الشخصية، أدّى كل ذلك إلى ظهور المصباح الكهربائي، فأناروا الأرض، وغيروا مجرى التاريخ. وكنتُ أتحدث مع مجموعة من الأصدقاء عن نظرية الانفجار العظيم، وأسهبتُ في الشرح قليلاً حتى قال أحدهم: «ألا تظن بأنك تضيع وقتك بالقراءة في هذه النظريات؟» وعندما سألته عن السبب قال إننا لا نعلم إن كانت هذه النظريات صحيحة أم لا، كما أنها لا تؤثر في حياتنا اليومية. فحكيتُ له ما كتبته في مقدمة المقال، وقلتُ له عندما ابتكر آينشتاين نظريته النسبية لم يكن يعرف ولا يتصور أن البشر بسبب معادلته الصغيرة تلك سيتمكنون من الوصول إلى الفضاء، وستدور حول الأرض أقمار صناعية دون أن تسقط عليها، وسيستطيع الإنسان أن يخترع نظام الملاحة الإلكتروني GPS الذي نحمله في هواتفنا وسياراتنا. إن مهمة العالِم والمتعلم لا تكمن في صناعة منتج ما، ولا في النتيجة التي ستصل إليها أبحاثهم، بل في فهم العلوم ثم نشرها حتى يتمكن غيرهم من تأملها وتطويرها وربما ابتكار أشياء مفيدة للبشرية. يُقام في نيويورك كل عام، ولمدة أسبوع، المهرجان العالمي للعلوم، وهو مؤسسة غير ربحية تسعى إلى ردم الفجوة بين العلوم والناس. حيث يُدعى الناس بمختلف أعمارهم وتخصصاتهم لحضور ورش عمل المهرجان الذي يتحدث فيه علماء في الرياضيات والفيزياء والكونيات والفضاء والكيمياء وفي مجالات أخرى كثيرة، ولا يتأخر الفائزون بجوائز نوبل عن المشاركة في المهرجان ليتحدثوا مع الكبار والصغار عن نظرياتهم واكتشافاتهم التي يقدمونها بشكل بسيط لأكثر من مليون وثمانمائة ألف زائر، رغم أن عمر المهرجان يبلغ ثماني سنوات فقط. ثم تُنشر جميع فعاليات وورش العمل المصوّرة بالفيديو على يوتيوب مجاناً. وأطلق القائمون على المهرجان موقعاً إلكترونياً قام بعض العلماء المشاهير من خلاله بتسجيل دورات متلفزة عن نظريات آينشتاين ونظريات كونية أخرى وتقديمها للناس مجاناً أيضاً. وعندما سُئل أحد العلماء المشاركين في المهرجان عمّا يُريد أن يعرف من خلال أبحاثه ومعادلاته قال: «لا أدري، ولكن هناك كثير من الأشياء الجميلة». وعندما أُعلن قبل أيام عن فوز العالِمين الياباني والكندي بجائزة نوبل لأبحاثهما وكشوفاتهما حول «النّيوترينو» قام موقع المهرجان بنشر فيديو مدته ساعة ونصف الساعة يشرح للناس ما معنى النيوترينو ولماذا هو مهم. وقبل سنوات كان أستاذ التاريخ ديفيد كريستيان يتحدث عمّا سماه «مشروع التاريخ الكبير» الذي يحلم من خلاله بتعليم الناس كل شيء، منذ الانفجار العظيم وحتى اليوم. وكان من حظه أن بيل جيتس كان من بين الحضور، فالتقى معه بعد العرض وعرض عليه تمويل مشروعه. واليوم، يوجد موقع باسم المشروع يتيح لأي شخص أن يشاهد فيديوهات قصيرة جداً، على هيئة برنامج دراسي، يتعلم من خلالها تاريخ الكون الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة وحتى اليوم. كل ذلك مجاناً، فالمهم كما يقول ديفيد هو أن يتعلم الناس، ويضيف: «في نهاية البرنامج ستعرف تاريخ الكون وأين مكانك منه». إن هذه المشاريع، والحوارات الفكرية، والجدالات العلمية، تدفع الإنسان للتفكير في الحياة، في الكوكب الذي نعيش فيه، في الوجود، وتحرك فينا حاسّة الدّهشة، وتستثير في داخلها غريزة الفضول. وما إن تبدأ هذه المركَّبات بالتفاعل في ذهن الإنسان، فإنه يبدأ الخطوة الأولى في طريق المعرفة الحقيقية. يقول جيتس عن المشروع: «تساؤلك، فضولك، وطريقة تفكيرك بعد إنهاء البرنامج هي التي تجعل من المشروع ذو قيمة حقيقية».