نشر صديق لي تغريدة على تويتر بها رابط ما، ولم تمضِ بضع دقائق حتى انهال عليه سيلٌ من النصائح لمسح التغريدة مع تحذير من عقوبتها في الدنيا والآخرة. إلى أن أرسلت له سيدة لا يعرفها رسالة جاء فيها: «أرسلتُ لك فتوى الشيخ (الفلاني) علّك تتوب، وإن لم تتب فلقد بلغتكَ وبرئتُ أمام الله منك..». كان هجوماً كاسحاً حتى ظننت في بادئ الأمر أنه تطاول على الذات الإلهية، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما وجدت أن سبب تلك الزوبعة كانت مجرد أغنية! لقد كان خطاب أولئك المغردين ينطوي على وصاية اجتماعية؛ بمعنى أن كلا منهم يشعر بأنه مسؤول عن المجتمع بكل أطيافه وعلاّته وهفواته وسيئاته، وعليهم بالتالي أن يقدموا النصيحة كيفما استطاعوا ولأي إنسان وفي أي مكان. حيث بدا من سياقهم الجماعي أنهم يظنون بأن الله تعالى سيحاسبهم على منكرات الآخرين؛ إن لم يتدخلوا لتغييرها، ولذلك فإنهم يحاولون تغيير كل (منكر) من أجل البراءة منه ومن مقترفيه، وليس بالضرورة من أجل إصلاح المجتمع. إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مفهوم واسع وفضفاض، قد يجيّره البعض بطريقة خاطئة وفظة وعلنية، فتتحول النصيحة إلى عنفٍ منظّم، يدفع الناس إلى التوغل في الخطيئة، أكثر مما يدفعهم عنها. ناهيك عن اختلاف الناس والمذاهب والآراء الفقهية حول كثير من القضايا الفرعية، وبالتالي، فإن أحدا من الناس قد يهاجم غيره، لأن المذهب الذي يتبعه يقضي بحرمة ممارسة ما، في حين أن الشخص المُهاجَم قد ينتمي إلى مذهب يجيز تلك الممارسة، وهنا ينشأ التعصب الفكري الذي يقود إلى تأزم وإرباك معرفي. إن هذه الوصاية أشبه بالبلطجة الفكرية التي تمارس، غالباً، من قبل فئات ذات مستوى فكري بسيط، وقد تتحول إلى عنف جسدي كما حصل مع الشخص الذي طعن نجيب محفوظ، فعندما سأله القاضي عن سبب طعنه إياه، أجاب بأنه كافر وخارج عن المِلّة، فسأله القاضي: «وكيف عرفت ذلك؟»، فأجاب: «من روايته أولاد حارتنا؟»، فسأله:»هل قرأتها؟»، فقال: «كلا»!، ومثلما حصل مع الشيخ الشعراوي الذي هاجمه رجال دين معروفون حتى قال عنه أحدهم: «إنه منحرف عن العقيدة!».لا لشيء إلا لأنه يتبع مدرسة سنيّة أخرى. أما اليوم فلقد أخذت البلطجة بعدا إلكترونياً، في فيسبوك وتويتر، حيث يسعى كثير من الناس، وغالبيتهم لا يملكون علماً شرعياً، إلى انتزاع اعترافات من الكُتّاب ورجال السياسة والمثقفين تجاه القضايا الفكرية والسياسية والدينية، وما إن يتفاعل معهم أحدٌ حتى يضعونه تحت إحدى التصنيفات الكارثية التي تعيق النمو الفكري في المجتمع، وتشيع الخوف من التفكير الحر. فصرنا نسمع أن فلاناً ليبرالي، وفلانا وهابي، وفلانا إخوانجي، وغيره علماني، وهلمّ جرّاً، وصار المجتمع ينجرف نحو قاع فكري سحيق. إلا أنني موقن بأن الوصول إلى الحضيض، ما هو إلا فرصة للارتطام بالقاع؛ ليندفع بالمجتمع بعدها إلى الأعلى مرة أخرى، فنحن كمجتمعات عربية، نمر اليوم في عنق زجاجة حضاري، سببه الانفتاح الهائل على العالم بكل أديانه ولغاته وأفكاره وإرهاصاته،عززت ذلك الثورات العربية التي فضحت كثيراً من الرموز الفكرية والدينية المزيّفة. أرسل لي أحدهم قبل أيام رسالة نصية يقول فيها «سمعت أنك ليبرالي، فهل أنت كذلك؟ ثم، ماذا تعني الليبرالية؟» وقبله بأيام سألني أحدهم على تويتر إن كنت أؤمن بالصوفية، وإن كنت كذلك فإنه مستعد لمناقشتي في العلن وبيان ضلالي وكفر المتصوفة! كل هذه المواقف تصيبني بالذهول، فلستُ ليبرالياً أو صوفياً، ولو كنتُ متخذا توجها دينياً أو مدرسة فكرية فلن يضيرني الإعلان عنها، ولكن ما أذهلني هو هذا العنف الهائل المحتقن في صدور الناس وعقولهم، والمشكلة أن معظم هذا الاحتقان يُبرر باسم الدين! وعلى الجانب الآخر يطالبك الناس كل يوم في الإنترنت بإبداء مواقف «واضحة» على حد قولهم، حول قضايا العالم العربي السياسية، والفكرية، والدينية، والاقتصادية.. وما أكثر ما أقرأ هذا السؤال: «ما قولك فيمن يقول كذا؟ أرجو الرد وعدم التهرب من الإجابة» فأشعر بأنني في قسم شرطة فكرية وليس في فضاء رحب مفتوح! لا تظنوا يا أصدقائي بأنني متشائم، بل متفائل جداً بأن منطقتنا العربية تمر بمرحلة بناء معرفي جديد، وفي خضم هذه المرحلة الحرجة، لابد من الضياع على بعض مفترقات الطرق، ولابد من الحوادث الفكرية التي قد تسبب موت أفكار ما، ثم ولادة أفكار جديدة. إنها حياة فتيّة تتشكل أمام أعيننا، وفي كل ولادة لابد من ألم ومعاناة. المهم هو ألا نفقد الأمل بأننا قادرون على تخطي هذه العقبات المؤقتة، رغم البلطجة ورغم التشدد، فالعربات التي تسير إلى الأمام، ستسبق التي تمشي إلى الخلف حتماً.