أكد إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس إن قضية التشريع، وإقامة الإمامة والولاية على رأس القضايا التي عني بها الدين الإسلامي، وأرسى أسسها سيد المرسلين؛ حيث قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (رواه أبو داود بسند صحيح)، وقال ربنا في محكم التنزيل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ»، قال الإمام ابن تيمية: «نزلت هذه الآية في الرعية، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر إلا أن يأمروا بمعصية الله». مشيرا إلى أنه لو لم يكن للناس إمام مُطاع؛ لانثلمت شرائع الإسلام، ولَتعطلت الأحكام، وفسد أمر الأنام، وضاعت الأيتام. وقال في خطبة الجمعة أمس إن بيعة الإمام تعني العهد على الطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر وعدم منازعة الأمر أهله، وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ»، قال أهل العلم: «وهذه الآية وإن كانت نزلت في بيعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن البيعة لمن بعده من ولاة أمر المسلمين داخلة في عمومها، وهذه الآية الكريمة نصٌ في وجوب البيعة وتحريم نقضها ونكثها، قال سبحانه: «فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»، ويقول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه مسلم في صحيحه: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». وأضاف: «فالبيعة قررتها الشريعة وأوجبتها نصوص الكتاب والسنة، فهي أصل من أصول الديانة، ومعلم من معالم المِلّة، يوجب الشرع التزامها والوفاء بها؛ لأنها أصل عقدي وواجب شرعي ، يقول الإمام النووي: «وتنعقد الإمامة بالبيعة»، ويقول العلاّمة الكرماني: «المبايعة على الإسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه»، إنها لُحْمة على السمع والطاعة تنصّ، وعلى الإجلال والمحبَّة تحضُّ وتخصّ، إنها علاقة عَقَدِيَّة تعبدية تقوم على ركيزة إعلاء مصالح الدين ورفع صرح الشريعة، وإعلاء راية الحسبة، وتتجافى عن المصالح الذاتية، والمطامع الشخصية، والحبِّ المزعوم، والمديح الكاذب، والإطراء المزيَّف، والاقتيات على فتات موائد الأحداث. ولفت إلى أن للبيعة واجبات، ومسؤوليات وتبعات؛ أهمها وأُولَاها: السمع والطاعة في غير معصية، ففي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية» (أخرجه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» (رواه مسلم)، وثانيها: حفظ هيبة الأئمة ومكانتهم، روى الترمذي في سننه وأحمد بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله». وثالثها: المناصحة بالضوابط الشرعية دون تشنيع، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، قال الإمام الشوكاني: «ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل، أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد، بل يأخذ بيده ويخلو به، ويبذل له النصيحة»، ومن ظن أنَّ النَّقد لأهل الحلِّ والعقد، والعلماء والدعاة، ورجال الخير والحسبة، على هذا المنوال، فقد جانب الصواب، وأبعد النُّجعة، وعين النصيحة نبذ ذلك، لإفضائه بتماسك الأمة وترابطها، إلى يباب الفرقة، ورعونات الأهواء، ولخلوصه إلى انتقاص من جاء الشرع برعاية حقوقهم وحفظ هيبتهم. وأوضح أن من نَبَوَات الأفهام، وكَبَوَات الأقدام، في كثير من المجتمعات، ولدى كثير من الفئام والأطياف، أنَّ التغيير والإصلاح كامن في المروق والإيجاف، والصولةِ والإرجاف، دون تبصّر في النتائج ونظر في العواقب، وتنوّر للمآلات بفهم حصيف ثاقب أو أنَّه يكمن في التنصُّل من الدّين والتميُّع في تطبيق الشريعة وتقديم التنازلات تلو التنازلات والانفلات من الثوابت والمبادئ والقيم، والانسياق وراء الانفتاح غير المنضبط دون مراعاة لخصوصية الأمة المسلمة، يقول الإمام ابن القيم: «الإنكارُ على الملوك والولاة بالخروج عليهم أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر». وأكد السديس في خطبته أنَّ من شكر النعماء والتحدث بالآلاء ما تعيشه هذه الديار من التئام سلطان الشرع والعلم والكياسة، بسلطان الحُكم والملك والسياسة، في مظهر فريد ونسيج متميز، ومنظومة متألقة من اجتماع الكلمة ووحدة الصف والتفافِ الأمة حول قيادتها، ومبادرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنَّة، بسلاسة وانسيابية ويسر وتلقائية، قلَّ أن يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً، في عالم يموج بالتحولات والاضطرابات وكثرة النوازل والمتغيرات، مما جعلها نموذجا يحتذى في العالم، بالأمن والاستقرار والتوازن والاعتدال، والجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولا عزاء للمغرضين والمزايدين. وفي المدينةالمنورة قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي في خطبته إن الدنيا في تقلب أحوالها الكثيرة يدرك قدرها ويعلم سرها، فمن وثق بالدنيا فهو مغرور، ومن ركن إليها فهو مثبور؛ فقصر مدة الدنيا بقصر عمر الإنسان فيها، وأن عمر الفرد يبدأ بساعات، وبعد الساعات الأيام، وبعد الأيام الشهور، وبعد الشهور الأعوام، ثم ينقضي عمر الإنسان على التمام. وأوضح أن الإنسان لا يدري ماذا يجري بعد موته من الأمور العظام، وأن عمر المخلوق لحظة من عمر الأجيال، مورداً قول الحق تبارك وتعالى: «إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ»، وقوله -عز من قائل-: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ». وحث الحذيفي كل من أطغته صحته فعصى وأفسده فراغه فَلَهَى وفتنه ماله فتردى واتبع هواه فهوى وغره شبابه فنسي البلى ومن جرأه على ربه فسحة الأجل وبلوغ الأمل حتى اختطفه الموت، أن يرجع إلى ربه ويتوب، وأن يستيقظ من الغفلة المطبقة ويستجيب، وأن يعتبر بالقرون الخالية والمساكن الخاوية.