بناة المجد أناس تركوا أثرهم الطيب في الحياة وسجلوا أسماءهم في سجل الشرف والمجد لما قدموه لأمتهم من خير ونفع وما خلفوه للأجيال من تراث مجيد وتركة مباركة وأي ناجح في مجال من مجالات الحياة فهو من بناة المجد أياً كان ذلك المجال . وبناة المجد في الإسلام لهم صفات منها أن يكون الله راضياً عن هذا الإنسان وأن يقدّم عملاً نافعاً وأن يكون من حوله راضين عنه بين ثلاثة أركان لمجد المؤمن الصادق في الدنيا والآخرة الناجح في حياته فلابد أن يؤمن بالله على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المنحرف الضال لا يعتبر في الإسلام ناجحاً لمحاربته لربه وكفره بآياته وشرعه وأن يقدّم عملاً ينتفع هو به ويستفيد منه البشر وأن يرضى عنه من حوله من والد وابن وزوجة وصديق وشريك ونحوه فلا نجاح لشرّير وفاجر يؤذي الناس ويكون سبباً في شقائهم مهما قدّم من عمل، فالناجح يشعر بالأمان في نفسه ويعيش الناس معه في أمان ويأمن غضب الله بطاعته ولهذا قال الله في أوليائه الناجحين الفائزين: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)، وأنا أذكر أمثله للناجحين في الحياة فالسلطان العادل الذي ينشر الخير ويرحم العباد ويعمل بالمساواة ويحمل روح الإنصاف ناجح يُشكر في الدنيا والآخرة، والعالم الرباني الذي تعلّم العلم وعمل به وعلّمه الناس نجم في سماء الفضيلة والبر والصلاح والطبيب الحاذق الذي ينصح لمريضه ويسعى في شفاء الناس مبجّل محترم من الرواد، والمهندس الذي يشارك في العمار ويساهم بفكره وجهده في البناء رجل مرموق له مكانته في سجل الشرف، والكاتب الموهوب الذي يرسم بقلمه حروف الوعي والنهضة والصلاح ويجتنب الإساءة والزور كوكب دُرِّي يضاف إلى قائمة اللامعين في مسيرة العطاء والرقي والنجاح وقس على ذلك المشاركين في صنع الحياة الكريمة الراشدة من مزارع وجندي وبناءٍ وصحفي وغيرهم، إن بناة المجد لا يحتاجون إلى دعاية من غيرهم تقوم على استئجار الأقلام وشراء الضمائر وإنما جهدهم المبارك وعملهم المشكور ونتاجهم الباهر وأثرهم الطيب خلّد أسماءهم في ذاكرة الأمة وفي ديوان الريادة، من الذي يستطيع الآن يمسح بجرة قلم أو بكلمة مؤذية اسم رمز تاريخي قدّم لأمته أعمالا جليلة أو ترك آثاراً خالدة اعترف بها العقلاء وبالمقابل من الذي يستطيع أن يرفع وضيعاً خاملاً فاشلاً ناقصاً تافهاً فيجعله في الصف الأول مع قادة العلم والفكر والزعامة والموهبة والتميز؟ إن الشمس في رابعة النهار لا تحتاج إلى قصائد عصماء في مدحها فقد فرضت جلالها وبهاءها وسناءها على الكون وإن القمر ليلة البدر لا تزيده ملاحم الثناء وكلمات الإعجاب علواً إلى علوه، قال زميلنا وصديقنا أبو الطيب المتنبي: مَن كانَ فَوقَ مَحَلِّ الشَمسِ مَوضِعُهُ فَلَيسَ يَرفَعُهُ شَيءٌ وَلا يَضَعُ وفي كتب الأخبار أن أعرابياً كان في وادٍ مظلم يمشي ليلاً وقد أسودَّ عليه المكان فوقف حائراً وفجأة طلع القمر عليه فالتفت إلى القمر فرحاً مسروراً وقال من شدة الغبطة وهو يخاطب القمر: يا قمر إن قلت رفعك الله فقد رفعك، وإن قلت جمّلك الله فقد جمّلك لكن أقول جزاك الله خيراً يا قمر، قام أحد الأنذال في عصر التابعين يسب أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له أحد العلماء: يا فلان إن عليا بن أبي طالب قد بلغ من الرفعة عند الله وعند خلقه ما لا ينفعه مدح مادح ولا يضره سبُ ساب، واعلم أن عليا قد رضي الله عنه وأدخله الجنة فهل يضره بعد هذا كلام؟ فسكت الرّجُل كأنه كلبٌ أُلقِمَ حجراً، ومن الأمثلة المضحكة أنني قرأت لبعض كتّابنا في صحف محليّة يحاكمون شيخ الإسلام ابن تيمية ويدّعون أنه لم يفهم بعض القضايا كما ينبغي وعنده خلط عجيب في بعض المسائل وهؤلاء الكتّاب أصفار حتى في عالم الكتابة نكرات في الحياة بحاجة ماسة إلى تعليم وتربية وأدب، فابن تيمية ليس بنبي معصوم لكنه إمام معتبر كبير خطير شهد له الشرق والغرب حتى بعض المفكرين من غير المسلمين سجّلوا شهادات إعجاب لهذا العالم الرباني والمفرد العلم فيأتي كاتب لم يفهم كلام هذا العبقري الأعجوبة فليته سكت على جهله وستر غباءه ولكنه فضح نفسه وادعى الباطل جهلا بأن ابن تيمية عنده تناقض وتخبط والذين يستحون قد ماتوا، والمقصود أن بناة المجد توكلوا على الله ثم اعتمدوا على أنفسهم فقدّموا بجهدهم وعرقهم عطاءً مباركاً ومجداً خالداً وأثراً عظيماً، قال إبراهيم عليه السلام لربه تعالى (وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي ثناءً حسناً وذكراً جميلاً قال أبو الطيب: ذِكرُ الفَتى عُمرُهُ الثاني وَحاجَتُهُ ما قاتَهُ وَفُضولُ العَيشِ أَشغالُ أخي أنت أفضل كاتب لسيرتك الجميلة، وأنت أروع منتج لفلم حياتك الباهية، فمن الآن ابدأ الإعداد والإنتاج فإذا نجحت فسوف تبصم لك الدنيا بالعشر، وإذا رسبت فلو شهد لك الشمس والقمر، والبدو والحضر، وربيعة ومضر، لما سمع أحد، ولا قَبِل بشر، أرجوك لا تعتمد على شجرة النسب ولا على عمود الحسب، بل انطلق أنت بمواهبك، واستثمر قدراتك، وازرع أشجار الأمل في بستانك، وخط لوحة مجدك بريشتك الآسرة الموحية، وأجمل من ألف قصيدة تُقال فيك وترفعها أنت في البراويز بمجلسك عملٌ مثمر تقدّمه أو مشروع ناجح تنتجه أو أثرٌ محمود تتركه، ولو نحتَّ اسمك في كل حجر ونصبت لك تمثالاً على كل شاهق ما قبل الله إلا عملك ولا مدح الناس إلا أثرك ولا حفظت الدنيا إلا مجدك الصحيح الباهر وليس المزّيف الخاسر.