عنوان المقال مستوحى من حديثي مع امرأة مسيحية مؤدبة خلال زيارتي عاصمة الضباب: لندن، وهو – كما حكت لي بقلق وتوجس – حلم ورغبة قوية صرّح بها شابان مسلمان بريطانيان وغيرهما كثير، شابان ولدا وربيا في المملكة المتحدة، ونعما من خيراتها، ولا يعرفان وطناً غيرها، وخلاصته أنهما وأمثالهما يسعون لزيادة أعداد المسلمين في تلك البلد حتى يصلوا إلى مرحلة من العدد والجاهزية والتأثير تمكنهم من تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة المتحدة. لعل هذا الحلم – في أول الأمر – يروق لنا كمسلمين متحمسين لديننا، وراغبين في نشر دين الله الحق في كل أرجاء المعمورة ولو كره الكافرون، ويهيج هذا الحديث الحالم بعضاً من ذكرياتنا السعيدة والحزينة، فنتذكر سالف عز الإسلام في قبرص وصقلية ومالطة والأندلس ولشبونة، وتتوارد الخواطر، وتتداعى الأدلة والشواهد، ولا يشك مؤمن ثابت الإيمان في الإشارات الصحيحة والصريحة المذكورة في الوحيين: القرآن والسنة حول انتشار الإسلام وارتفاع رايته في كل أرجاء الأرض. إن لهذا الحلم الجميل زوايا معرفية أخرى وجوانب دعوية متعددة ومهمة جداً، لكنها قد تغيب عن بعضنا، ولا تتكشف إلا حين تزول غشاوة الحماس والعواطف عن أعين هؤلاء الشباب المسلم وكل من يتعاطف مع حلمهم المتحمس. كما ذكرت آنفاً، لم يكن ما أخبرتني به محدثتي البريطانية المسيحية في سياق الحماس للإسلام والدعوة إليه والفرح بعلو كلمة الله سبحانه وتعالى، ولكنها كانت خائفة ومتوجسة وقلقة على مستقبل الحريات والاستقرار في المملكة المتحدة، وهي – كما يعرف الكثير – دولة قوامها خليط غير متجانس من الأعراق والأجناس والديانات، ومصدر هذا الخليط الحضاري أمور عدة من أهمها ترحيب هذه الدولة بالمهاجرين إليها من شتى الملل والنحل. هل يحق لهذه المرأة الذكية أن تتوجس من تحقق حلم هذين الشابين البريطانيين؟ إنه سؤال جد مهم، ولا تغني في إجابته العواطف والحماس والحمية لهذا الدين خصوصاً إذا بعدت عن المنطق، وخلت من الحكمة وموازنات المصالح والنظر في مآلات الأمور. لعل أفضل ما يعيننا على إجابة هذا السؤال الاستماع لمزيد مما قالته تلك المرأة الإنجليزية، فقد قالت معلقة على حلم الشابين: «هذا أمر مخيف ومقلق، فلقد ناضلت المرأة في بريطانيا للحصول على حقوقها، وأنا لا أريد أحداً – كائنا من كان – أن يسلبني هذه الحقوق، لا أريد أحداً أن يعاملني بظلم وفظاظة وقسوة واستعلاء، لا أريد أحداً أن يمنعني من سياقة مركبتي، أحس أن هذين الشابين يريدان الانتقام منا…….». يفتح حديث المرأة كوة إلى عقلها ونفسها وروحها ومشاعرها، فهي تخاف من هذين الشابين وما يحلمان به، وتحديداً فهي تخاف من الشريعة الإسلامية، إنها تخاف، ولا غرابة في خوفها، فالمرء عدو ما يجهل، ولعل لخوفها مزيد عذر، فهي ترى وتسمع أخباراً وأموراً يندى لها الجبين من أخبار بعض من تعجل وأحرق المراحل ورفع رايته وعقيرته بتطبيق الشريعة الإسلامية، ودليل القول – وإن نسي أو تناسى بعض أحبائنا من أولئك – كان ولم يزل أصدق وأبلغ أثراً من دليل القول وإن نمق لفظه وسحر بيانه. يقول قائل – متحمس بعض الشيء- إن فهم هذه المرأة للشريعة الإسلامية مغلوط وغير صحيح ولا يبرر خوفها، وأنا أوافقه، ولكنها أسست فهمها ذاك على ما ترى وتسمع وتقرأ وتشاهد من أحوال بعض المسلمين: قسوة، غلظة، عبوس، اعتداء على أبرياء، معاملة مخجلة للمرأة المسلمة، جماعة تهدم آثاراً لديانات قديمة، وأخرى تخطف 200 طفل وتبيعهم عبيداً، وقتل مسلمين على أيدى مسلمين باسم الدين، وجدل حول ما يمكن أن تعمله المرأة وما لا يمكن لها عمله، وتعليقات مضحكة حول خطر السياقة على المبايض، ومصادرة لحريات الشعوب، ومداهنة فقهاء البلاط، وإلباسهم الشرعية للطغاة والظلمة، وسكوتهم عن سرقة المال العام، ومحاكمة صغار المجرمين، وحماية أكابر المجرمين والمفسدين، ويرد قائلنا معلقاً: إن الإعلام مختطف ومسيّس ومغالط وغير أمين وكاذب، وأوافقه، ولكن هذا لا يغيّر ما أشرنا إليه من أسس فهمها المغلوط عن الإسلام والشريعة الإسلامية. ياليت شعري، هل أدرك هذان الشابان – ومن يعلمهما – ضرر الحديث مع المسلمين وغيرهم عن هذا الحلم العاطفي والمتحمس بهذه الطريقة الفجة والمخيفة والعارية من الحكمة؟ إن الحديث غير المتزن عن حلم تطبيق الشريعة في لندن ضار بمصالح الإسلام وبسمعة الدين وأهله، ومن يتحدثون بهذه الطريقة المستهجنة غفلوا وجهلوا أبسط قواعد الدعوة إلى دين الإسلام: الحرص على مناسبة المقال لحال المتلقي ومستواه الذهني والمعرفي، وهذه المرأة مثال لكثير وكثير من غير المسلمين وبعض المسلمين الذين لا يفهمون حقيقة الإسلام، ولا يعرفون مقاصد الشريعة، ولا يدركون رحمة التشريع، ولا يعرفون الله وحكمته ورحمته، ولا يعرفون معنى الوحي الإلهي وحاجة البشر إليه. لعل حلم هذين الشابين وليد من الشعور بالإحباط والاستياء من بعض أحوال المسلمين الحاضرة، ورغبة في الخلاص، وتعلق بحلم وأمل، ولا ضير من التعلق بحلم وأمل، ولكن الضرر لا محالة يأتي حينما يبنى الحلم على معرفة مبتورة، وفكر مبتسر، وعاطفة لا يحكمها عقل، وتوجه أهوج ، وأسلوب أرعن. في سياق الحديث عن أساس الحلم، أشير إلى خلل معرفي آخر، هو أشد خطراً من جهل تلك المرأة، إنه جهل هذين الشابين ومن سلك مسلكهما بما يؤمنون به، ويدعون إليه، ويحلمون به، فهم – مع كونهم مسلمين ديانة ونسبة – لا يفهمون الشريعة ومقاصدها، ولا يدركون مصالحها ومعنى تطبيقها، وبهذا يصبح جهلهم مركباً، وخطرهم على الإسلام أشد من بعض أعدائه، ولطالما وجد الأعداء في جهل هؤلاء مطية سهلة لأغراضهم الخبيثة، فيستغلون حماسهم وجهلهم في توهين الإسلام من داخله وعلى أيدي بعض أبنائه، وهذا مما يفسر ترحيب وعناية بعض الدول غير الإسلامية بكثير من أصحاب الفكر الإسلامي المتطرف، وكما يقول المثل الإنجليزي: احرص على القرب من أصدقائك، واحرص أكثر على القرب من أعدائك، ليكونوا تحت نظرك دائماً، ولتعرفهم عن قرب، وتستغل حماسهم لضرب أصحاب ملتهم، ولن يلومك أحد، أو يشك في سوء نياتك. حفظ الله الإسلام والمسلمين، وبصرنا بديننا، وفقهنا في شريعتنا، وجعلنا ممن يدعون إلى الله على حكمة وبصيرة وموعظة حسنة، آمين.