تحدثت يوم أمس حول ضرورات تغيّر صورتنا بعد التقاعد وقد استعرضت خلالها عن الصورة الذاتية، كما استعرضت صورة العائلة والمجتمع، كما تحدثت عن تأثر صورة المتقاعد لدى المجتمع. ويرجع التأثر والهزة في الصورة الذاتية بعد التقاعد إلى سبب واضح وظاهر قد يغيب على بعضهم لشدة ظهوره، ألا وهو غياب أكبر مقوّم ومكوّن لصورتنا الذاتية، وهو: العمل النظامي برتابته ونمطيته التي اعتدناها لعشرات السنين من العمل النظامي والمستمر، كما يؤدي التقاعد عن العمل إلى آثار أخرى تشارك في هزّ صورتنا الذاتية، فالتقاعد يعني فقدان نسق ووتيرة مقولبة ومنظمة لحياتنا اليومية، وكذا فإن المتقاعد يفقد بتركه عمله النظامي نسيجاً اجتماعياً محيطاً من العلاقات والصلات الإنسانية في محيط العمل، فلسان حال المتقاعد يقول: أنا الآن لا أعمل في عملي الذي صرفت فيه عمراً طويلاً، ولقد فقدت مصدر فائدتي وقيمتي في المجتمع، كما لا يوجد ما ينظم حياتي، ومما يزيد الطين بلة وحدتي المفاجئة، وسببها فقداني لفرص التواصل الاجتماعي في محيط العمل. ما مدى تأثر الصورة الذاتية بعد التقاعد؟ تختلف الهزّة التي تصيب المتقاعد بعد تركه للعمل باختلاف المتقاعد، فلا يمكن إطلاق وصف شامل لها وتعميمه، فمن المتقاعدين من يمرّ بهزة التقاعد مروراً سريعاً، ويستأنف حياته في صورة ذاتية جديدة ومعنى جديد منفصل تماماً ومغاير لصورته الذاتية قبل التقاعد. وبعض المتقاعدين يمرون بمرحلة صعبة وكآبة واضطرابات نفسية، قد يتجاوزها بعضهم إلى مراحل وصور ذاتية متكيفة مع حياة التقاعد جزءاً أو كلاً، وقد تطول كآبة بعض المتقاعدين منتجة صورة غير صحية ومهتزة وغير راضية، ويواصل بعض المتقاعدين حياتهم بعد التقاعد في صورتهم الذاتية الأولى، فتراهم يواصلون أعمالاً وحياة مشابهة لحياتها خلال العمل النظامي كأنهم لم يتقاعدوا عن عملهم. مامدى تأثر صور المتقاعدين الذاتية في بلادنا بعد التقاعد؟ إن إجابة هذا السؤال لا تتأتى إلا بطريقة ممنهجة وعلمية أساسها دراسات ميدانية استبيانية لعينات بحثية كبيرة قوامها الآلاف من المتقاعدين، وتستغرق سنوات طويلة من متابعة أحوالهم قبل وبعد تجربة التقاعد، ولا أعتقد وجود هذا الزخم البحثي للمتقاعدين في بلداننا العربية في هذه المرحلة، كما تزدداد صعوبة هذا البحث بإخفاء كثير من المتقاعدين معاناتهم النفسية بعد التقاعد خجلاً وهروباً من نظرة المجتمع المغلوطة وغير الرحيمة إلى العلل النفسانية وخلطها بالجنون والعته. رجاء وسؤال للمتقاعدين في بلداننا: ما هي تجربتك في رحلة صورتك الذاتية بعد التقاعد؟ إن أهم مصدر لبحث وفهم التغيّرات الحاصلة على الصورة الذاتية للمتقاعدين في بلداننا هي تجارب المتقاعدين أنفسهم، وليس من رأى كمن سمع، فياليت متقاعدينا – وأنا منهم – يتواصلون بصراحة تامة معي أو مع الأطباء النفسانيين بهدف المشاركة بخبراتهم التقاعدية حلوها ومرها. ولعلي في هذا السياق أدعو أساتذتي المتقاعدين أو الذين يفكرون بالتقاعد عن العمل بمواصلة بحثنا هذا وقراءة أبحاث أخرى أعددتها حول التقاعد بهدف فهم الإطار الأكبر للموضوع، والإفادة من بحوث الغربيين في مجال علم نفس التقاعد ودراساتهم الميدانية والممنهجة في هذا المجال المهم، وأشاركهم ببحثين مهمين أعددتهما ولهما صلة ببحثنا: -1 هل أنت جاهز للتقاعد عن العمل؟ -2 كيف يجد المتقاعد معنى جديداً لحياته بعد تركه العمل النظامي؟ -3 متى يتوقف مخ المتقاعد عن العمل بعد التقاعد؟.