الأستاذ محمد حسنين هيكل أكد أن «الإخوان لا يصلحون لحكم مصر» وسرد في لقاء سابق على قناة الجزيرة مبررات ذلك، وهو محق – إذا اعتبرناه محللاً حيادياً – فالذين خبرتهم كلها كانت تنظيمات سرية هدفها قلب أنظمة الحكم، في مصر ومعظم البلدان العربية يحتاجون لزمن طويل ربما يماثل زمن تجربتهم السرية السابقة لفهم آليات الحكم وأنظمته وعلاقاته الدولية وتوازناته المحلية وتشعباته الاقتصادية، والأمنية وفوق كل ذلك «الكاريزما» المطلوبة له. وكل هذا – فيما أعتقد – معروف، غير أن الأستاذ هيكل حتى الآن – فيما يبدو – لم يصل إلى القناعة التي توصل إليها حتى الباعة المتجولون في شوارع القاهرة، والتي تقول بالدليل القاطع إن «العسكر لا يصلحون للحكم»، بل إن الوقائع والأدلة تثبت أن إخواننا «العسكر» في الحكم أسوأ بمراحل من أي تنظيم مدني آخر بما فيهم «الإخوان» ولا أريد أن أخوض في الأسباب التي تدفع هيكل إلى عدم الإقرار بفشل «العسكر» في الحكم، فمن المعروف أن الأستاذ كان الشريك معهم والمنظّر لهم والمدافع عنهم منذ 1952، ولذلك اكتفى بالإشارة إلى بعض أخطاء المجلس العسكري الحالي التي أهمها – كما قال – إنه لم يضع خطة وجدول أعمال للمرحلة الجديدة بعد الثورة، وقال: إن الرئيس العسكري ليس مخيفاً، وكأني بالأستاذ يريد أن يقول إن المجلس بحاجة لمنظّر أو مستشار مثلي «يرقع» ما يجهلونه أصلاً، فإذا وجد هذا المنظّر فلا بأس من رئاسة عسكري. وعندما أقول ما يجهلونه فأنا لا أشير إلى عيب أصيل في «العسكر» عموماً، ولكني أتحدث عن تربية وسياق واختصاص، فهم – وهذا قيل كثيراً – مثل المعلمين حين نقول إنهم لا يصلحون للقيام بدور «العسكر» أي يجهلونه، وهكذا يمكن القياس، مع الإيمان بأن لكل قاعدة شواذها واستثناءاتها التي لا يمكن القياس عليها. «العسكر» في وطننا العربي الكبير أثبتوا فشلاً ذريعاً في الحكم في غالبية البلدان العربية، وفي طليعتها مصر، التي بدأت مسيرة «القهقرى» منذ بيان الضباط الأحرار حتى يومنا هذا، والله أعلم ماذا يحدث غداً مع «العسكر بتخبطاتهم، والإخوان بأفرعهم الحزبية المعلنة والمستترة». نظريات الحكم الرشيد لم تعد اليوم غائبة عن الشعوب عامة ناهيك عن النخب، لكن تطبيقات الحكم الرشيد ليست متاحة لأي أحد، حتى لو حمله «الجمهور» على أعناقهم كما حدث للدكتور عصام شرف في ميدان التحرير، عندما اعتقد أنه استمد شرعيته من الميدان بينما في الحقيقة أن سطوة إرضاء الجمهور أنسته أنه كان لا يعرف الفرق بين إغراء «الحقل» وخلاصة «البيدر». «الأمن» أبو الحياة كلها، والمجتمع – أي مجتمع – لا يتحقق له الأمن الشامل لن يعيش مطمئناً ولا هانئاً ولا منتجاً، ولك أن تتصور أنك تملك مليون ريال، لكنك لا تستطيع أن تشتري منها بمائة ريال وجبة غداء أو عشاء لأن «البلطجية» واللصوص وقطاع الطرق يتربصون بك حتى داخل دارك، ألست مستعداً لدفع المليون من أجل الاستمتاع بالمائة ريال؟ ما الذي يبقى إذا ذهب «الأمن» ثم من هو هذا الحاكم الذي يجرؤ – دون خجل – على أن يتحدث للناس عن خطط قادمة، ووعود مستقبلية والناس من خوفهم لا يستطيعون الاستماع إليه، ولا قراءة ما يثرثر به. بعض النخب العربية روجت ونجحت في إلصاق تهمة «الانتهازية والوصولية» بصاحب كتاب «الأمير» السيد «مكيافيلي – Machiavelli» باعتباره كرس قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة» بينما الحقيقة أن كتابه بما تضمنه من قواعد وإرشادات كان يمثل صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية، التي يمارسها عامة الناس في كل عصر ومصر في حياتهم اليومية إلى اليوم، والتي لا غنى – مطلقاً – لأي حاكم عنها مهما كانت مبادئه ومعتقداته، والتي يأتي في مقدمتها تحقيق الأمن لوطنه وشعبه بأي وسيلة، وإذا كان «الغرب» اليوم وهو يلح ويرعد ويزبد على «حقوق الإنسان الفرد»، ونحن نتطلع إليه بإعجاب وأمل، فإن هذا الغرب ذاته يفتش العابرين بالأشعة وهو بهذا لا ينتهك حقوقهم، لأنه يفعل هذا مع الأفراد من أجل أمن المجموع، والسيد ميكافيلي أقر مبدأ الغاية النبيلة مهما كانت وسيلتها قبل أكثر من خمسة قرون، والإسلام العظيم أقرها قبل أكثر من 14 قرناً، أليست عقوباته المنصفة بحق الأفراد المجرمين أو المخطئين وسيلة مثلى لحماية الأكثرية؟ بينما يراها بعض دعاة حقوق الإنسان عن عدم وعي أنها قاسية ومنتهكة لحقوق الأفراد. «مصر العظيمة» تدهورت اقتصادياً واجتماعياً منذ ثورة 1952 وحتى الآن في ظل حكم العسكر وأصدقاؤنا وإخواننا القوميون والناصريون والسادايتون والبعثيون وغيرهم حين يهبطون من فضاءات «الشعار» إلى معطيات «الواقع» يقرون بذلك وأقلهم واقعية وموضوعية يستثني حقبة عبدالناصر ويعترف برداءة الباقي، لأن الأمر هنا أرقام وحقائق، وليس مشاعر وعواطف. ومصر العظيمة الآن بعد الثورة الشعبية منذ سنة منفلتة أمنياً، ولست متشائماً بمستقبلها إن نجحت في الخلاص من «حكم العسكر»، و»أيديولوجيا الإخوان» ووصلت إلى صيغة عصرية «حازمة» للحكم الرشيد الذي يستلهم بيت شاعرنا العربي القديم الأفوه الأودي الذي يقول: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا