أخبرني أحد العاملين في قناة تلفزيونية عن دراسة أعدتها شركة أبحاث متخصصة في الدراسات الإعلامية، حول أكثر البرامج مشاهدة في العالم العربي، فاحتلت الدراما العربية وبرامج الإفتاء المباشر رأس القائمة. وحدثني أحد أصدقائي أن زوجته أرسلت رسالة نصيّة عن طريق الهاتف إلى الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف تستفتيهم في قضية ما، فجاء الجواب بجواز فعل ما سألت عنه. فطلب منها زوجها أن ترسل نفس السؤال مرة أخرى بعد نصف ساعة، فجاءها الجواب بالتحريم. فتساءلتُ: لماذا يستميت الناس في البحث عن فتوى في كل شيء؟ وما الجدوى من توفير خدمات (الفتاوى المستعجلة) في كل مكان؟ فهناك عشرات المواقع الإلكترونية، والخدمات الهاتفية، التي لا تكتفي بالفتيا، بل تُفسّر الأحلام أيضاً، حيث قرأتُ قبل أيام إعلاناً وضعته إحدى الجهات (الرسمية) عرضت فيه رقماً مجانياً لاستقبال طلبات تفسير الأحلام! أستغرب كثيراً عندما أدرك بأننا أكثر شعوب العالم دراسة للدين وقراءة لكتب الشريعة، إلا أننا مازلنا أكثرها سؤالاً عن الأحكام الفقهية! وأشعر أحياناً بأن الناس لا تعرف شيئاً في الدين، وتخاف فعل أي شيء في الحياة دون الحصول على فتوى. وعلى الرغم من كثرة انشغالنا بإنتاج الكتب الشرعية، إلا أن معظم مؤلفاتنا الدينية هي إعادة إنتاج للقديم، ومعظم الاستشهادات هي نفسها التي نسمعها مذ كُنّا في المدرسة، ولا يكاد يأتي فقيه معاصر بشيء جديد إلا ويُرمى عمله بأنه بدعة، ومنافٍ لمنهج السلف الصالح. إن هذه الممارسات هي نتيجة حتمية للاستلاب الذي تمر به الأمة منذ عقود، فقديماً كُنّا نعاني من استلاب معرفي تجاه الإنتاج العلمي الغربي، أما اليوم فإننا نعاني من استلاب داخلي للمعارف الدينية تجاه تيار واحد، وفكر أحادي يرفض، إلى حد بعيد، التعددية الفقهية. وبسبب تفشي الأمية وتردي التعليم لعقود طويلة في المجتمع العربي والإسلامي، تشكلت قناعات، أشبه بأيديولوجيا جهلية، تشكك المسلم في عقله، وإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من رجال الدين كانوا، ومازالوا، يخوفون الناس من محاولة تأويل النصوص المقدسة، ويحثونهم على الرجوع إلى المتخصصين بالعلوم الشرعية في كل صغيرة وكبيرة، أدركنا لماذا يخشى المسلم، سواء كان متعلماً أم بسيطاً، من القيام بعبادة ما، كالجمع والقصر في السفر، قبل سؤال أحد المشايخ. إن ظاهرة الفتوى المباشرة خطيرة جداً، لأنها أولاً: تهمش العقول ولا تدفع الناس للبحث بأنفسهم في الكتب والمراجع عن الجواب الصحيح؛ مما يعزز ظاهرة الاتكال المعرفي، فيرمون بتلابيب إدراكهم لرجل الدين؛ الذي قد يعيش ظروفاً أخرى غير ظروفهم؛ ويفتي بما لا يناسبهم. فعندما سُئِل الإمام الشافعي عن سبب تغيير بعض فتاواه عندما انتقل من العراق إلى مصر قال إن المكان يختلف، والزمان يختلف، وظروف الناس تختلف. ثانياً: لأن المفتي يحتاج إلى وقت لدراسة الأسئلة وتمحيص ظروف السائل، فقد تكون مسألة حياة أو موت كقصة ابن عباس، رضي الله عنهما، عندما أتاه رجل يسأله إن كانت للقاتل توبة، فنظر إليه وقال: «ليس للقاتل توبة» فولّى الرجل، فقال له أصحابه: «كنت تقول إن للقاتل توبة» فقال: «إني رأيته مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً؛ فسدَدْت الطريق عليه». مما يدلنا على وجوب فهم المفتي لحال المستفتي قبل إصدار فتواه. ثالثاً: لا يمكننا أن نفصل تراثنا وظرْفنا الحضاري عن التراث الإنساني العالمي، الذي أصبحنا نتأثر به بشكل مباشر من خلال التماهي مع الثقافات الأخرى؛ عن طريق وسائل الاتصال الحديثة وقراءة الإنتاجات المعرفية للآخرين. كل هذا التجاذب والتفاعل قد أنتج تصورات فلسفية وقيميّة جديدة ومشتركة على الصعيد الإنساني، فرضت علينا ظروفاً حياتية تستدعي إعادة تأويل كثير من المفاهيم الدينية، التي من الظلم أن نفهمها بعقلية وحيثيّات من عاش قبل مئات السنين، وهو ما يقوم به غالبية أصحاب الفتاوى السريعة.ثم، لماذا نشغل الناس بالبحث عن فتوى في تفاصيل حياتهم لدرجة أنهم يسألون عن مدى جواز استخدام فيسبوك؟ ألسنا بذلك نسطح القضايا العربية والإسلامية الكبرى، كالحريات وحقوق الإنسان والتنمية الإنسانية وغيرها! يقول ابن القيم: «لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك». إن انتشار ظاهرة البحث عن فتوى ليست دليل إيمانٍ، بل قد تكون عكس ذلك، وبدل أن يُشغَل الإعلام ومنابر الجُمَع بأحكام الغُسل والطهارة، نتمنى أن يوظّفا لتحفيز الناس على تنمية أوطانهم، وعلى التسامح تجاه الآخرين.