أتألم عندما أرى أبناء وطني الذين رعتهم الأيادي المخلصة ليكونوا سواعد بناءة، يعودون من ساحات العلم إلى ساحات العمل، فيجدون أرباب عمل تعيش على رؤية قاصرة أو مصلحة شخصية. الحديث عن توظيف خريجي برنامج الابتعاث ليس بجديد وقد تم طرقه من زوايا متعددة، صحيح أنها فرقعة تتجدد كل حين عبر أحد المعنيين أو المهتمين ما تلبث أن تتلاشى، إلا أن ما يحدث في الجامعات خصوصاً من تجاهل لأبناء الوطن وإقصاء عن إحلالهم محل أعضاء هيئة التدريس الوافدين باختلاق أعذار واهية أمر مؤلم في الوقت نفسه، وأعتقد أنه مهما صبر الإنسان على الألم فإن لنفاد صبره مؤشرات. نحن هنا لا نتحدث عن جامعاتنا غير الناشئة (إن صح التعبير) التي تشبعت بالكوادر على الرغم من حاجاتها إلى ضخ الدماء الجديدة محل المغادرين لأسباب متعددة، بل عن جامعاتنا حديثة الولادة -وهي لم تعد كذلك- وحاجتها إلى الكوادر البشرية على الأصعدة كافة، وهنا مكمن الألم الذي يتعرض له أبناء الوطن المبتعثين للدراسات العليا. حينما تنفق الدولة مئات الملايين فتصرف على الطلبة والدارسين وعلى خدمتهم ورعاية مصالحهم وعائلاتهم ليعودوا بشهاداتهم وتحصيلهم شتى العلوم والمعارف والثقافات ثم يتم رفضهم من قبل هذه الجامعات الناشئة بحجج واهية، فتتأمل ثم ترى أن لا قيمة تذكر لتلك الأموال والجهود التي بذلت للاستثمار في بناء سواعد أبناء الوطن. وعادي الوطن مليان فلوس! أليس هذا مؤلماً؟! نحن لا نتحدث عمن درس خارج النظام أو خارج لوائح الاعتراف بالشهادات في وزارة التعليم العالي، ولا نتحدث عمن أتى بشهادته من جامعات ركيكة أو وهمية، بل عن الذين درسوا تحت إشراف وتمويل وزارة التعليم العالي ممن تمت معادلة شهاداتهم وفق نظام المعادلات، وتقدموا للجامعات ولم يتم قبولهم وإحلالهم محل المتعاقدين. حينما يتم إرسال لجان التعاقد إلى الدول العربية والأجنبية تحت ذريعة «أعلنا ولم يأت الشخص المناسب!» للتعاقد مع أعضاء هيئة التدريس، وغض الطرف عن تلك الحجج والأعذار -غير المقنعة- وتجد من زملائك العرب الذين درست معهم في الجامعة نفسها وربما التخصص نفسه من يتصل كي يستشيرك أي الجامعات وأي المدن أفضل حتى يوقّع عقده الأكاديمي معها، أليس هذا مؤلماً؟! حينما تتخرج أنت وزميلك -غير المواطن- من الجامعة نفسها ويتم التعاقد معه ثم يمضي عقدا مدته أربع سنوات قابلة للتجديد فيترقى على أكتاف الجامعة، ويعود إلى بلده بعد أن اكتسب المنصب والخبرة العملية في جامعاتنا (الوليدة) وأنت أيها الخريج المواطن على دكة التسول تنتظر الوظيفة، أليس هذا مؤلماً؟! حينما تشكو أمرك إلى وزارة التعليم العالي بحكم أنها من قام بابتعاثك أو بضمك للبعثة والصرف عليك مالياً ومتابعتك إشرافيا وتعليمياً، ثم تقول لك إنها مسؤولة عن تعليمك فقط وليس تعيينك أو توظيفك، ثم تشير عليك بالذهاب إلى جهة الاختصاص، فتذهب إلى وزارة الخدمة المدنية فترد بدورها أنها لا تملك صلاحية على مديري الجامعات، فيمضي عمرك متسكعاً ومستجدياً ومستعطفاً، أليس ذلك مؤلماً؟! حينما يرفض ابن الوطن الحاصل على الدكتوراة في تخصص ما بحجة أن البكالوريوس التي حصل عليها قبل عشرين سنة تختلف عن تخصص الماجستير والدكتوراة، بالرغم من عدم وجود هذا التخصص الذي درس فيه لمرحلة الماجستير والدكتوراه في ذلك الوقت، بل ندرة وجوده في جامعاتنا أيامنا هذه، وفي الوقت نفسه يتم معادلة شهادة الدكتوراة من التعليم العالي ما يعني ألا تحفُّظ على اختلاف التخصص، أليس هذا مؤلماً؟! اختلاف التخصص وعدم الإلمام باللغة الإنجليزية والدراسة في البلدان العربية أو تقدير جيد في مؤهل البكالوريوس، هي بعض تلك الأعذار الواهية التي لم تمنع وزارة التعليم العالي من ضم أبناء الوطن إلى بعثاتها الدراسية، ولم تمنع الإدارة العامة للمعادلات من معادلة شهاداتهم بعد تخرجهم. فلم هذا التكبّر والتعالي يا جامعاتنا الناشئة؟! نحن لم نضع بعد هذه الجامعات المتعالية عن توظيف هذا المواطن تحت المجهر، لنعرف كيف هي أحوال منسوبيها وإنتاجهم العلمي أو مصدر تأهيلهم العلمي والأكاديمي ومخرجات تدريسهم، بالرغم من أن بعض روائحها قد فاحت! فعلى رسلك رويداً جامعاتنا (الناشئة) وكوني واقعية في طموحاتك واقتربي من أبناء الوطن فهم من يدوم لك، وهم المخلصون ولا عيب في صقل مهاراتهم وتدريبهم إن استدعى الأمر فهم أولى من الغريب. وهوينك هوينك جامعاتنا (الوليدة) فمن هم أكبر منك سناً وقدراً يحاربون بشتى الوسائل للحصول على موطئ قدم في ساحة التميّز!، فأي منزلة تبحثين عنها بالمقارنة مع ما تبذله من سبقتك بعشرات السنين؟! دعك من إطلاق الشعارات الرنّانة والأوهام الحالمة، فليس كل من تخّرج من الجامعات الغربية سيصبح نيوتن أو أينشتاين، وكم طالعتنا مواقع إلكترونية بنشر قوائم بأسماء أشخاص حصلوا على مؤهلات وهمية من جامعات غربية، وانظري إلى التأسيس والاستثمار في أبناء وبنات الوطن كما أوصى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (حفظه الله ورعاه).