زرت إسطنبول في رحلة قصيرة مع صديق لي حاول جاهداً إقناعي بزيارتها، موضحاً أن تركيا قد تغيّرت عما أعرفه عنها منذ ثلاثين عاماً، عندما زرتها مع والدي -يرحمه الله-وكنت أكبر من عشر سنوات بقليل، ولكن صورها طبعت في ذاكرتي، فهي تلك المتسخة التي تغلب عليها المباني القديمة والسيارات التي صنعت قبل 20 عاماً حينها. لقد حاولت أن أقنع صديقي بعدم ذهابنا، ولكنه استطاع، وبعد عدة أشهر، أن يغلبني ووجدتني وإياه على طائرة متجهة إلى المدينة التركية، وكان في ذهني محاولة أن أجهز حجة معينة كي لا يطول بقاؤنا هناك. وما أن بدت ملامح المدينة حتى بدت مبان عالية وحديثة، وكان في استقبالنا صديق نصف كلامه إنجليزي والآخر تركي، وكان علينا ربط الجمل مع بعضها حتى نفهم ما يقول، فتركت الأمر لصديقي، ورحت أتأمل الشوارع ونظافتها، والمباني وحداثتها. إنها فعلاً نظيفة، رغم أن 17 مليون نسمة تسكنها، غير السياح. وخلال الأيام التي قضيتها جربت التنقل بالحافلة والمترو وكلاهما مريح ونظيف. لن أتحدث أكثر عن أي شيء آخر، وسأركز على موضوع النظافة. سرت في شوارع المدينة وأحيائها وأزقتها أبحث عن أوساخ، مجار، أو حتى فئران، فلم أجد، إنها النظافة، أو ثقافة النظافة، إذ إن هناك التزاماً بإلقاء النفايات في أماكنها. بل حتى حاويات القمامة ليس لها رائحة مثل التي عندنا. سرحت في تذكر كثير من الأماكن التي حولنا، وقمت بزيارتها، كانت كلها نظيفة أو على الأقل ليست كما هي الحال لدينا، ولم تكن كما تصورتها، بل كانت شوارعها نظيفة، بل ومغسلة بالماء. خلال العام الماضي استقبلت عدداً من رجال الأعمال، يتكرر قولهم: ماذا حدث لجدة؟! أصبحت متسخة أكثر! تنتشر فيها الروائح الكريهة.. حيرة وإحراج في نفس الوقت، فمن يعيش في جدة لا يحافظ عليها، ومن يزورها من بقية المناطق لا يحافظ عليها كذلك. وعندما تعاتبه يقول لك «يعني أنا اللي وسخت البلد».. نعم أنت وأمثالك، وكان من الأحرى أن تكون من الذين يحافظون عليها، لا من الذين يزيدونها اتساخاً. إنها الثقافة التي نفتقر إليها في حياتنا.. ما إن نلتقي ونتحدث عن مدينة من المدن التي يضرب بها المثل في التقدم والتطور، إلا وأول ما نتحدث عنه هو النظافة، ولكننا ما إن نركب سياراتنا حتى نلقي ما فيها من أوساخ في الطرقات. تجد صاحب مركبة، سواء فاخرة أو غيرها، يفتح نافذة سيارته ليلقي أوراقاً أو أعقاب سجائر، أو أكياساً، وغيرها كي يبقي سيارته نظيفة. الأسوأ من ذلك هو الطرق السريعة، فمن يتأمل وهو يقود سيارته متجهاً إلى مكةالمكرمة أو إلى المدينة يجد حجم الأوساخ الملقاة على جانبي الطريق، التي تغطي أي نباتات خضراء. ألا تمثل هذه المخلفات خطراً على البيئة وحياتنا. بمعادلة بسيطة، لو أن مدينة جدة يقطنها مليونا شخص فقط، منهم 500 ألف يتجهون لأعمالهم كل صباح، وألقى نصفهم (أي 250 ألفاً) منديلاً واحداً لكل واحد منهم ليس أكثر في الشارع، لكان خلال ساعة واحدة 250 ألف منديل في شوارعها، واحسب على ذلك بقية اليوم. إنها أكوام من المخلفات تلقى في الطرقات باستهتار كل يوم. إن النظافة ليست مشكلة يمكن حلها في أسبوع نظافة وينتهي الأمر، أو إعلانات تثقيفية لمدة محدودة ويتم تغييرها بإعلان تجاري، بل إنها ثقافة مجتمعية عامة، تبدأ من البيت، وتشارك بها مؤسسات المجتمع مثل المدرسة والأمانات والبلديات والمرور والإعلام والصحافة وغيرها، ولا ما نع، بل يحبذ، أن يطبق نظام يعاقب كل من خالفها كي نحظى ببيئة نظيفة نعيش بها وينمو فيها أبناؤنا.