ندرك تمام الإدراك أن التحزبات الفكرية موجودة في كثير من الأوطان، وأنها أصبحت علامة فارقة في عديد من الدول التي تتأثر بتلك التحزبات بسبب تركيبتها الفكرية الضعيفة، ولعلنا نُسلم بأن هناك تباينا في عمل بعض تلك التحزبات الفكرية، فتقول إن بعضها يعمل بوسطية واعتدال وحس وطني عالٍ، أما بعضها فنراه يعمل عكس ذلك، سواء كانت تلك التحزبات تدرك هذا الأمر أو لا تدركه، حتى أن بعض الحركات أصبحت تتابع وتهتم بالقضايا التي خارج الوطن التي تتناسب مع فكرها وتوجهها، وقد تسابق كثيرون من الأتباع إلى تلك التحزبات هنا وهناك، وأصبح كل واحد يدافع بطريقته الخاصة عن مبادئ ذلك الحزب بما يراه هو فقط، ويعتقد أنه ضجيج دون سماع وجهات نظر الآخرين والمناقشة في ذلك بروح عالية من الهدوء والحوار. أصبحنا بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر، نستطيع أن نتحدث وأن نرد بكل حرية وأن ننتقد من هو أعلى منا فكرا وعلماً دون الشعور بالخجل أو الخوف، وأصبحنا نصنف بعضنا بعضا. هذا متشدد وهذا ليبرالي والآخر علماني أو حتى بين المنتمين للتيار نفسه تجد أن هناك تصنيفات حدثت فهذا سروري، أو جامي، أو سلفي جهادي. فالسؤال هنا لماذا انتشرت عمليات التصنيف هذه؟ ومن المستفيد منها؟ سأجيب عن الشق الثاني من السؤال، حيث إن المستفيد من هذه التصنيفات المتعددة والمتباعدة فيما بينها هو العدو المتربص بوطننا ووحدتنا. وقد دار نقاش طويل الأسبوع الماضي في محافظة جدة عن التصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية من خلال اللقاء الذي نظمه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وأجمع المشاركون والمشاركات على خطر هذه التصنيفات على وحدتنا ونسيجنا الوطني، خاصة إذا تزايدت تلك التحزبات في إقصاء الآخرين وتهميش أدوارهم وأفكارهم. وتعاملت بأحادية تامة لفرض فكرها وتوجهها على المجتمع، فإن ذلك سوف يزيد الهوة بين أبناء الوطن الواحد ويصبح هناك تناحر وتباغض بسبب ذلك الشحن الممجوج فيما بين هؤلاء المتحزبين. ومن خلال ذلك نتمنى أن يكون هناك حد لوقف هذا التأجيج بين أتباع تلك التحزبات، وأن يكون تفكيرنا متجها لمصلحة وطننا والحفاظ على أمنه، وإلا تزعزعت وحدتنا الوطنية من أجل التعصب لأفكار وتوجهات هي في الأساس قابلة للتغيير والتبديل عن طريق الحوار والإقناع، كما نتمنى من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني أن يعمل على بناء وثيقة أو رؤية فيما يخص التصنيفات الفكرية يوضح فيها مخاطر تلك التصنيفات وآثارها السلبية على الوطن، وكذلك ضرورة صدور نظام وعقوبة واضحة ضد أي تجاوز أو تطاول على أحد من خلال تصنيفه أو تكفيره. وختاماً، إن حق التعبير وتبني التوجهات الثقافية والفكرية يجب أن يتوافق مع الحقائق القطعية للشريعة والمصلحة الوطنية، حيث يبقى الوطن فوق كل هذه المعادلات والمواجهات الحزبية. ونستدل على ذلك بالنماذج التاريخية الناجحة في تاريخنا الإسلامي المجيد، وكذلك الأنظمة الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على بقاء كيان الدولة ومصالحها فوق الحسابات الحزبية الضيقة، لأن طبيعة المشاريع الفكرية والأيديولوجية متغيرة وسريعة التشكل وفق ضغط وظروف الواقع، بينما ثوابت الوطن والأمة ثابتة وعميقة مستندة إلى هويتها وقالبها الحضاري.