نشأت سلوكيات الاستعباد بين أرباب العمل تجاه العمال منذ مئات السنين، فبالرغم من بريق الثورة الصناعية في أوربا وما أحدثته من نقلة نوعية في حياة البشر، إلا أنها كانت تخفي في جنباتها سلوكيات فظيعة تجاه العمال، مما دعا المجتمعات الأوربية إلى سنّ تشريعات حازمة تحفظ للعمال كرامتهم. تبع ذلك تأسيس أحزاب العمال في الكثير من الدول والتي أصبحت تلعب دوراً هاماً في توجيه سياساتها الداخلية والخارجية وسن القوانين والتشريعات التي تعدت اهتماماتها حقوق العمال إلى اهتمامات أخرى حيوية كالصحة والتعليم، وتم إقرار ذكرى سنوية تحتفل بها تلك الشعوب (ما يعرف بعيد العمال) رغبة منها في زيادة الوعي المجتمعي بمشكلات العمال والموظفين وإعطائهم الفرصة للمطالبة بحقوقهم. ونتيجة لاكتشاف البترول وظهور معالم الرخاء الاقتصادي في الخليج عموماً وفي السعودية على وجه الخصوص، تدفق ملايين العمال والمهنيين من شتّى بقاع الأرض إلى المملكة كنتيجة طبيعية لتوفر الفرص المهنية وأسباب الدخل المادي الأعلى، وبالتالي تكونت لدى فئات من السعوديين بعض سلوكيات الاستعباد، كتلك التي تخلصت منها أوربا وأمريكا منذ عقود طويلة، وأصبحت ثقافة الاستعلاء على العامل الأجنبي واحتقار ثقافته ككل سلوكاً ملاحظاً عند الكثير من المواطنين. ما دعا لسرد هذه المقدمة هو الخبر المنشور بالأمس عن إلقاء السلطات الهندية القبض على مواطن سعودي يقيم ويعمل في الهند بصورة غير شرعية وما تبع الخبر من تعليقات تراوحت بين من شكك في صحة الخبر إلى أولئك الذين جعلوا منه فرصة ثمينة للتندر والانتقاص من الهنود. حسب قناعتي الشخصية، هناك احتمالان لتبرير ذلك السلوك لا ثالث لهما: إما أن الواقع الذي نعيشه من المثالية بمكان بحيث أن ذلك السلوك مبرر، أو على الأقل يمكن أن نلتمس أدنى عذر لمن يسلكه، وهذا بالتأكيد أمر يصعب إسقاطه إلا على مجتمعات «اليوتوبيا» غير الموجودة أصلاً، أو أن ذلك السلوك نتيجة لخلل تربوي واجتماعي يستلزم التقصي والمعالجة وسن القوانين التي تكفل حقوق العمال تماماً كما حدث في أوربا وأمريكا، وهذا هو الأقرب إلى الصواب. نحن فعلاً بحاجة إلى ترسيخ الأبعاد الإنسانية وآداب التعامل تجاه العمال، والعمل على إزالة ما ترسب في أذهان البعض من الشعور بالفوقية والأفضلية التي ولدتها حقبة النفط. نحن كذلك بحاجة إلى أن نكون أكثر واقعية وصدقاً مع الأجيال القادمة بتبصيرهم بمواطن الخلل وطرق معالجتها، بدلاً من المبالغة في تلميع الذات وتضخيم الأنا بصورة قد تخالف الواقع. لنخبرهم مثلاً عن حضارة الهنود وتاريخهم السياسي والاقتصادي العريق وكفاحهم لتحرير بلادهم من المستعمرين. لنخبرهم أن جملة من المخترعات التقنية التي صارت جزءاً من حياتهم اليومية لا زالت تدين بالفضل للخبراء الهنود، لنخبرهم كذلك أن ذلك السائق الهندي أو حتى المزارع، حائز على شهادة علمية مرموقة لكنها لم تمنعه من البحث عن لقمة العيش الكريمة، ولعلنا في الوقت نفسه لا نتناسى أن الهند كانت حتى وقت قريب مقصداً للساعين في طلب الرزق من أبناء هذه البلاد.