تستيقظ صباحاً متفائلاً قليلاً أنك ستفعل ما يبعدك عن كل هذا القلق والتوتر البلا طائل، ستفعل ما يعيد لك جزءاً من شخصيتك الحقيقية التي بدأت تطمسها أخبار الموت والدم والعنف ومتابعة أحاديث السياسيين وبرامجهم وخلافاتهم وشتائمهم، ستفعل ما يفترض أن يؤكد حياتك ضد الموت ويؤكد وجودك ضد العدم ويؤكد تمسكك بالنور ضد الظلام الذي يحيطك من كل جانب، تستيقظ صباحاً وتشرب قهوتك وتدخن سجائرك المعتادة ثم تمارس كل طقوسك الصباحية الأخرى وترتدي ثيابك في طريقك للخروج، وتتذكر أن تتأكد من وجود جواز سفرك في الحقيبة، أن تنسى أنت السوري جواز سفرك وتخرج إلى شوارع القاهرة هذا يعني أن تبقى حتى عودتك تعاني رهاب التوقيف من قِبل أي دورية أمن أو جيش عابرة أو مستقرة، والتوقيف قد يعني الاعتقال، وقد يعني الترحيل، وقد لا يعني غير سؤال أنت في غنى عنه، وأن تحمل جوازك معك أنت السوري وتخرج إلى شوارع القاهرة يعني أن تبقى متمسكاً بحقيبتك خشية أن تسحبها يد محتاجة تعودت على النشل السريع، لا تخشى على ما تحمله من نقود، فهي لا شيء ولا تغري بالقلق، ستقلق أن تفقد جواز سفرك، حينها ستعرف جيداً معنى أن تكون سورياً لاجئاً في دولة عربية، وستتذكر كل ما سمعته من أصدقائك الفلسطينيين الذين سبقوك إلى هذا التيه، ستفعل إذن كل ذلك وتنطلق في شوارع القاهرة في طريقك إلى معرض الكتاب الذي افتُتح قبل يومين، حيث ستشعر هناك وأنت تتنقل بين أجنحة المعرض وتقرأ عناوين الكتب الجديدة وتشتري منها ما يعجبك وتتأمل كتابك الصادر حديثاً معروضاً لأول مرة في القاهرة، ستشعر من جديد وأنت تشم رائحة الكتب أن حاستك هذه مازالت فاعلة رغم أنف الدم، وأن انحيازك إلى هذه الرائحة هو ما يبقيك على قيد التوازن نسبياً، تملأ أنفك بهذه الرائحة ثم تكمل مسيرك لتقابل بعض المعارف والأصدقاء العرب ممن يأتون إلى القاهرة وقت المعرض فقط، تتحدثون قليلاً عن الأحوال وتحدثهم عن الغربة، ثم تتحدثون عن دول الربيع العربي متقصدين تجنُّب ما قد يثير الخلاف، ثم تعاود السير وأنت تنقل عينيك بين أسماء الأجنحة علك تلمح اسم سوريا ليبتهج قلبك قليلاً، ترى أول جناح يحمل الاسم المحبب لكنك لا ترى سوى شحنة الكتب الكرتونية المغلقة ما زالت كما هي، وعندما تسأل عن أصحاب دار النشر السورية هذه يخبرك أحدهم بأن الشحن تأخر في الوصول من مرفأ اللاذقية، أما أصحاب الدار فما زالوا ينتظرون إذن الدخول من السلطات المصرية للمشاركة في المعرض، تعرف أن معظم دور النشر السورية هي على هذه الحال، تلمح فجأة سورياً تعرف أنه قادم من دمشق، تقترب منه سعيداً وتسأله بشغف عن دمشق، فيصدمك حزن عينيه ولامبالاة صوته وهو يحدثك عن اللاحياة هناك، وعندما تهنئه على حصوله على موافقة أمنية لدخول مصر يقول لك إنه دخل بجواز سفره اللبناني لا السوري!! ينعصر قلبك من الألم والقهر على حال أبناء بلدك جميعاً (معارضين وموالين ومحايدين) كيف يعاملهم من كان شقيقاً إلى وقت قريب، ينعصر قلبك من القهر وأنت تتذكر بلدك الذي كان مفتوحاً على مصراعيه للجميع إلى حد أنك أنت ابن البلد كنت تشعر بالغبن وها أنت الآن مطرود وغير مرحب بك وتعامَل بصفتك كائناً من الدرجة الرابعة في بلدان كانت تعتبرك جناحها الثاني، تعاود المشي وأنت تبلع غصتك ودموعك الخفية وأنت تشعر كمن يسير في العتمة، حيث لا ترى شيئاً ولا تميز شيئاً سوى الفراغ المحايد حولك، تتذكر تفاؤلك صباح اليوم قبل قدومك، تحاول شحن نفسك به، تتصل برقم صديق قريب جداً لتخبره بما تشعر به، تصدمك برودة صوته ومشاعره، يمتلئ فمك بالخيبة وتمتلئ روحك بالخذلان، تقرر العودة إلى بيتك مكسوراً وحزيناً ووحيداً كما كنت قبل صباح هذا اليوم، تصل البيت بعد ساعات من الازدحام، تأكل قليلاً وتفتح صفحتك على «فيسبوك» وتتابع الأخبار وتعود إلى دائرة الاكتئاب اليومية، ثم تنام باكراً لتصحو صباح اليوم التالي على صوت انفجار ضخم رجت له جدران بيتك، فتظن أنك وسط كابوس تراه كل يوم، تعاود النوم وتستيقظ لتسمع عن الانفجارات الحاصلة حولك لتكمل يومك في كل هذا التيه… أهلاً بك.. أنت سوري في دولة من دول الربيع العربي!