يوم كانت الحموضة حلوة في الماضي الجميل، كان الأهل لا يعرفون الغش والنفاق ويمقتون ما يسوء من أخلاق. يركبون الجمل والحمار ويقطعون الفيافي والقفار. يعطون حق الليل والنهار، الابن مع أبيه بار، وبيتهم لهم جميعا دار، كبيرهم أب لكل من يرى من الصغار، عاشوا بلا معاناة مع المياه، ولا انقطاع كهرباء، يا حظهم ما عرفوا كارثة الأسهم ولا احتاجوا هواميرالعقار، وما رأو الآن تلاعب التجاربالأسعار؛ إذ المحتاج عندهم تلبَّى حاجته، ويأكلون من إناء واحد، ولا تلاحقهم عدسات التصوير ولا ينتظرهم الكنب الوثير؛ إذ ليس عندهم حواجز ولا أسرار، ولا جرس على الباب، ضميرهم حي وليس في غيبوبة. صباحهم يسمع بالتهليل والتكبير، ورمضانهم عبادة وليس عادة، الجوع لا يؤلمهم والفقر لا يقتلهم فكلهم سواسية. نعم كانوا أبعد عن حضارة أمريكا ولكنهم كانوا أقرب إلى رحمة الله. واليوم نملك السيارة ونركب الطيارة، ونأكل بالشوكة والملعقة نظنها الحضارة، غرف وصالات، ونشاهد الشاشات، نسمع المذياع، ونقرأ الصحف، ترى العالم في غرفتك، وتخاطب الدنيا من أجهزتك، نأكل المعجنات الإيطالية ونقتني العطورالفرنسية، نتسابق على الموضة ونعشق التقليد، وأصبح أطفالنا لا يأكلون إلاّ المعجنات والمعلبات وأصبحوا لا يمشون إلاّ بالتدحرج والتدرج من كبر بطونهم وخمول عقولهم. أخطاء كبار الشخصيات عندنا من الترف، وأخطاء عوام الناس هي من الخرف، يفسرون الدين بالمقاس، وللقبيلة الولاء والبراء، فقدنا التراحم فغصت المحاكم! أما المودة فهي في العناية المركزة! امتلأت المستشفيات بأمراض لم نسمع بها، فبعد أنفلونزا الطيور وجنون البقر.. جاؤوا بروماتيزم الغنم وبواسيرالبعارين والقولون العصبي للأسماك... إلخ فهل جنى علينا علمنا أكثر مما جنى عليهم جهلهم؟ الغصن الأخير: لا تتخيل الناس كلهم ملائكة، فإني أخشى عليك أن تنهار أحلامك وتضيع ثقتك في بحر دمعتك. ولاتظن الناس كلهم شياطين، فإني أحب فيك ألا تغير نظرتك وتسقط قناعاتك في ضوء بسمتك. فهل رأيت كيف تغلبت التكنولوجيا على الأيديولوجيا في زماننا هذا؟!