قبل أكثر من عشر سنوات شاركت مع طلاب موهوبين في السعودية في برنامج علمي بمشاركة عدد من الطلبة الموهوبين اليابانيين. أتذكر جيداً كيف كنا مشدوهين بنشاطهم وحبهم للعلم والعمل، وأكثر ما أدهشني ليس كمية المعلومات المتراكمة في عقولهم بل ثقافة الشاب الياباني، وهنا لا أقصد بالثقافة (المعرفة) بل (أسلوب الحياة). فثقافة شخص ما، لا تعني فقط كمية المعارف التي يقرؤها، بل تعني أيضاً نمط عيشه وطريقة تعامله مع الآخرين واهتمامه في إدارة وقته ونظرته للحياة وحماسه الشديد للعطاء وبساطته وغيرها من تشكلات الحياة الحضارية. أذكر حينها أن المنظمين أخبرونا بأن موعد انطلاقنا لإحدى الزيارات سيكون عند الساعة الرابعة والنصف، بعض زملائي السعوديين جاؤوا في الوقت وبعضهم تأخر كثيرا، اكتمل عددنا ولم نجد أي طالب ياباني! بدأ بعضنا بالسخرية من تأخرهم، فقد صدعوا الرؤوس برقي الإنسان الياباني واهتمامه بوقته! وقبيل الساعة الخامسة بدقائق إذا بهم يأتون! ثم اكتشفنا لاحقاً أن المنظمين حددوا الخامسة موعدا للقاء وأخبروا اليابانيين بذلك بينما أخبرونا أن الموعد في الرابعة والنصف!! إنها صورة من صور رقي الثقافة لدى أولئك الطلبة. تنتشر في المجتمعات المتخلفة مظاهر تعكس ضمور ثقافتها، فهي لا تنتظم في طوابير الانتظار، وتقود السيارات بتهور، ويكون المظهر أهم من الجوهر، والفساد المالي والإداري سمة لازمة في غالبية المسارات، والتعدي على حقوق الغير، المادية والمعنوية، أسلوب متّبع، والتطفل على شؤون الآخرين منتشر، وإتلاف الأماكن العامة واضح، ودنو الهمم وانعدام الطموح وسخافة الاهتمامات صفة للغالبية، وغيرها من الأنماط الحياتية البائسة. الإنسان بطبيعته البشرية يمكن أن يتصرف بلا مسؤولية، ويعمل أعمالاً سخيفة، ولكن ثقافته تنهض به وترتقي بسلوكه وترفع من قيمته. إن نهضة أي مجتمع تبدأ أولاً باستنهاض ثقافته، حيث لا تقدم اقتصادي وتعليمي وإداري دون تقدم عال في الثقافة. فالتاريخ والواقع يشهدان بأن الحضارة لا يمكن أن تبدأ وتعطي ثماراً ما لم ترق الأفكار والمبادئ والمعتقدات التي تتشكل في قالب يسمى «الثقافة». ما أعنيه هو الارتقاء بالثقافة الشعبية أي تلك الأفكار التي تنتج سلوكيات إنسانية مختلفة، بينما الثقافة العليا هي تلك المعنية بالمعرفة الإنسانية في شتى المجالات الإنسانية والعلمية. فالنهضة تبدأ بالإنسان أولاً فكراً وسلوكاً وقيماً، فقبل الاهتمام بالمباني الفارهة، والشوارع الفسيحة، يكون الاهتمام بالإنسان أكثر أهمية وأعلى شأناً.