اختار المسؤولون عن الأرشيف الوطني البريطاني الإفراج عن وثائق أحداث الحرم المكي في 20 نوفمبر 1979 (الأول من محرم 1400ه) عندما قاد جهيمان العتيبي مجموعة من اتباعه يُقدر عددهم بحوالي 250 رجلاً ودخلوا المسجد الكبير في مكة وأغلقوا أبواب الحرم وأعلن جهيمان، عبر مكبر الصوت، ظهور «المهدي المنتظر»، وتبين لاحقاً أنه المواطن السعودي محمد القحطاني! من الوثائق التي عثرت عليها «القبس» تبين ان التقارير التي أرسلت إلى الخارجية عبر السفارة في جدة كانت مشوشة وتنقل إشاعات عدة وروايات عدد من البريطانيين في جدة ومحيطها وروايات رُوجت في مصر وسُربت الى مراسل هيئة الاذاعة البريطانية بهدف التشويش على المملكة التي كانت حكومتها في ظل الملك خالد وولي عهده الأمير فهد على خلاف مع حكومة الرئيس أنور السادات بسبب ذيول الصلح مع اسرائيل. واللافت للنظر أن المسؤولين عن الأرشيف افرجوا مع ملف أحداث الحرم المكي على وثيقة (6 صفحات) جمع مواجهات كل من جون باننيرمان وجون طاغيان من قسم الأبحاث في دائرة الشرق الأوسط في الخارجية وكلمة «سري» وتعبير «يوكي اي» وتاريخها أغسطس 1981 وتلخص، عبر الأبحاث التي تلت، ما جرى وتحلله. وكانت تقارير السفارات البريطانية والأميركية والفرنسية تحدثت في البداية عن أن الايرانيين وراء احتلال الحرم المكي، ثم بدت اشاعات تتحدث عن مجموعات من المنطقة الشرقية للمملكة وراء الحادث، لكن شيئاً فشيئاً بدت الأمور تتضح عن أن المجموعة التي احتلت الحرم المكي سعودية ليتبين لاحقاً من دون تأكيد رسمي أن بعض الرعايا المصريين شاركوا في العملية. وفي البند الثاني من التقويم البريطاني للعملية الارهابية اشارة الى أن اتجاهات الهجوم بدأت عبر انتماء المجموعة الى الجماعة السلفية التي تشكلت في المدينة في عام 1972 بدعم من الشيخ عبدالعزيز بن باز (..) الذي كان مسؤولاً عن «جامعة المدينة» التي تم تأسيسها في عام 1960 لنشر الدعوة والاشراف على تدريس الفقه لموازنة الدراسة في الأزهر ومن ثم لتعميم الفقه الاسلامي والارشاد. أسلوب الحياة وكانت غالبية المنضمين الى الجامعة من الطلاب السعوديين، كما انتسب اليها لاحقاً بعض أبناء الجاليات التي تعمل في السعودية. واتخذت الجامعة خطأ متشدداً جداً بتوجيهات من الشيخ عبدالعزيز بن باز ومساعديه المقربين. وكان جهيمان انضم الى الجماعة السلفية في عام 1974، على رغم أنه كان طرد من الحرس الوطني بسبب تهريبه السلاح والمخدرات والكحول.. لكن بعد فترة تغيرت حياته وأصبح يحضر المحاضرات الدينية ويناقش العلماء في أصول الدين ويسأل عن الأصول والسيرة اثر تأثره بالاسلام المتشدد وعاش فترة في الرياضوالمدينة.. لكن بعد مناقشات وخلافات في الرأي بينه وبين العلماء بسبب رغبته بانتقاد أسلوب الحياة في السعودية ومحاولته فرض نظرية رفض التحديث والتلفزيون وحتى مباريات كرة القدم. انشق جهيمان عن المجموعة وشكل فصيلاً مستقلاً مع بعض الأعضاء الذين ساروا على خطه، وبدأ يعقد ندوات ينتقد فيها كيفية ابتعاد قادة الاسلام عن الاسلام الصحيح حسب زعمه.. واتخذ المنشقون مقرا لهم في الصحراء وبدأوا يدعون للعودة الى الاصول ومحاولة فرضها بالقوة اذا استدعى الامر. ظهور المهدي وفي فترة (حوالي 1976) بدأ جهيمان ينتقل في ارجاء المملكة لنشر مبادئه «ويتعمق بدراسة الاسلام». وفي الرياض التقى محمد بن عبدالله القحطاني الذي كان يدرس القانون والفقه في جامعة الرياض، وكان بدأ يبدي اهتماما بما يعرف باسم ظهور «المهدي». وانجبذت افكار الجهيمان ومحمد وتعاونا بعدما ترك محمد الدراسة، قبل حصوله على درجته القانونية، ليساهم في نشاط الجمعية التي اسسها جهيمان. وفي عام 1978، كما تفيد الوثيقة، بدأت السلطات السعودية تراقب اعضاء الجمعية ونشاطاتها واوقفت عددا من الناشطين فيها لكنه تم اطلاق سراحهم لاحقا اثر توصية من علماء رأوا ان ما ينادون به لا يتعارض مع اصول الدين. ورغم منعهم من القيام بأي نشاط يماثل ما جرى قبل توقيفهم، واصلت المجموعة، خصوصا جهيمان، تجوالهم في انحاء المملكة لبث الدعوة وآرائهم المتطرفة. فتوى المهدي المنتظر ووفق البند الخامس من الوثيقة، انه خلال هذه الفترة، ظهرت فكرة تنصيب محمد بن عبدالله وكأنه المهدي المنتظر. وتضمنت الوثيقة فتوى من الشيخ بن باز عن المهدي جاء فيها: • تقول السائلة: هل صحيح ان المهدي المنتظر سيظهر ام انها بدعة؟ مع العلم انه لا يوجد بعد وفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات، ارشدونا جزاكم الله عنا خيرا. المهدي المنتظر صحيح وسيقع في آخر الزمان قرب خروج الدجال وقرب نزول عيسى عند اختلاف يقع بين الناس عند موت خليفة، فيخرج المهدي ويبايع ويقيم العدل بين الناس سبع سنوات او تسع سنوات، وينزل في وقته عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، هذا جاءت به الاحاديث الكثيرة. {أما المهدي المنتظر الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة فانه من بيت النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد فاطمة رضي الله عنها واسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم: محمد وأبوه عبدالله، هذا حق وجاءت به الأحاديث الصحيحة وسيقع في آخر الزمان، ويحصل بسبب خروجه وبيعته مصالح للمسلمين من اقامة العدل ونشر الشريعة وازالة الظلم عن الناس. {وجاء في الأحاديث أن «الأرض ستملأ عدلاً بعد أن ملئت جوراً في زمانه، وأنه يخرج عند وجود فتنة بين الناس واختلاف على اثر موت الخليفة القائم، فيبايعه أهل الايمان والعدل بما يظهر لهم فيه من الخير والاستقامة وأنه من بيت النبوة». من هي المجموعة؟ وتشككت الوثيقة في ان جهيمان كان يؤمن بان محمد القحطاني هو المهدي وتساءلت ما اذا كان جهيمان «طوّر الفكرة» لمصلحة سياسية لكنه اقنع جماعته بها خصوصاً ان القحطاني من سلالة النبي كما ادعى. وكانت تفسيرات السلطات السعودية ان التعاليم التي طرحها جهيمان عن «المهدي» غير موثوق بدقتها واقل من تعاليم البخاري. وجادلت الوثيقة في ان القليل عُرف عن اتباع جهيمان، وان المؤكد فقط هو «القحطاني وجهيمان». وقدر مسؤولون سعوديون ان عدد افراد المجموعة الذين شاركوا بحادث مكة هو 245 شخصاً، في حين اشارت الوثيقة الى معلومات تحدثت عما بين 220 و270 شخصاً. وقالت ان الغالبية من «طلاب الدين السعوديين وابناء القبائل كما كان بينهم 50 من غير السعوديين، وذكر انه كان بينهم مجموعة صغيرة من جماعة التكفير والهجرة المنبثقة عن الاخوان المسلمين». ماذا جرى؟ وتحدثت انباء ان عماد الجماعة كان يتألف من جهيمان و20 من اتباعه المسيّسين، بينما كان الآخرون اقتنعوا ان محمدا هو المهدي وتبعوا ارشاداته. وتروي الوثيقة ما جرى على الشكل الآتي: كانت الخطة في البداية اعلان ظهور المهدي في موسم الحج لكن عدلت لاحقاً الى 20 نوفمبر لتتناسب مع بدء السنة الهجرية ويبدو ان قرار اقتحام المسجد اتخذ قبل اسبوعين فقط من الحادث. واستأجرت المجموعة غرفتين في الطابق السفلي للمسجد الحرام (يتألف هذا الطابق من 250 غرفة يتم تأجيرها للصلاة والتعبد والتأمل). وادخلت المجموعة في الايام الثلاثة قبل الحادث اسلحة وذخائر ومؤن الى الغرفتين وتبين ان من بين الاسلحة رشاشات كلاشنيكوف و22 بندقية حديثة و38 مسدساً وبعض البنادق القديمة التي كان يستخدمها رجال القبائل. وظهرت اشارات الى ان بعض موظفي المسجد ساعدوا في تهريب السلاح واخفائه. ونقل التقرير عن السلطات السعودية قولها «ان المؤن والذخائر كانت تكفي لصمود المجموعة ثلاثة شهور»، كما ظهرت تقارير عن ضبط مخازن اسلحة في مناطق قريبة من المسجد الحرام، وتم ضبط هذه الكميات من السلاح على ايدي فصيل خاص من الحرس الوطني. العملية واشار التقرير الى ان العملية وتوقيتها وما جرى في الدقائق الاولى لها غير واضحة، كما ان تسلسل الاحداث مبهم بعض الشيء بسبب التكتم الشديد للسعوديين، لكن ما يمكن اثباته ان اعضاء مجموعة جهيمان دخلوا مع مصلّي الفجر الذين يراوح عددهم عادة بين الفين وسبعين الفاً. ويبدو انه لم يتواجد في تلك الفترة غير 3 آلاف مصل في حين كان يُشرف على حراسة المسجد ما لا يزيد على 20 شخصاً غير مسلحين. وعند تلاوة السورة الاخيرة من صلاة الفجر (اشارة البدء بالهجوم) بدأ انصار «المهدي» يغلقون الابواب، واعلن جهيمان من مكبر الصوت يوجه انصاره المسلحين لاحتلال نقاط حساسة في المسجد والمآذن، وطلب من المصلين الاعتراف بالمدعو محمد القحطاني «المهدي المنتظر». واطلق النار على احد الحراس الذي حاول منعه من القيام بأي شيء وارداه قتيلاً. وفي بداية الهجوم، استطاع بعض المصلين الهرب، لكن آخرين احتجزوا في الداخل بعد اغلاق الابواب. اقتحام المسجد ووفق ما جاء في البند العاشر من الوثيقة، لم يكن رد الأمن السعودي سريعاً، بل كان مشوشاً في غياب الاميرين فهد وعبدالله عن المملكة. ولأسباب مفهومة، تم التداول مع العلماء في شأن كيف ستتصرف قوات الأمن قبل ان يحاول عشرات من الحرس الوطني وغيرهم اقتحام المسجد لتحريره بالقوة. وكان تم ابلاغ جهيمان و«المهدي» وجماعتهما بأنهم اذا استسلموا سيتم النظر بأمرهم وفق الشريعة بعد احتجازهم، وإلا ستتم محاربتهم كأمره تعالى: قاتلهم لكن ليس بالمسجد الحرام، إلا اذا قاتلوك هناك. وتمت محاولة استعادة المسجد اولاً على يد افراد الحرس الوطني بالتعاون مع وحدات من الشرطة والقوات الخاصة والمباحث. وفشلت المحاولة، مع وقوع ضحايا عديدين في صفوف القوة التي استعانت بقوة مدرعة لفتح الابواب لكنها قوبلت بقوة نارية ضارية.ولأن المسجد محاط بارض مكشوفة كانت اي قوة تتقدم تتكبد خسائر كبيرة مما جعل الحرس الوطني يخسر 130 رجلاً ونحو 500 جريح ولم تُعرف خسائر القوات الاخرى التي اشتركت في الهجوم بسبب التكتم الشديد. خطة جديدة وافاد التقرير انه لم تجر اي محاولة منسقة الا عندما قادها الامير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات الذي اشرف على تنفيذ خطة منسقة شاركت فيها فصائل عدة من القوات المسلحة وبعدما تم نشر قوة قناصة من القوات الخاصة راحت تصطاد المسلحين في المسجد والمنائر عن بعد. وبعد ذلك تم شن هجوم ثنائي شاركت فيه قوة من الحرس الوطني والقوات الخاصة وتم استخدام سلالم لاحتلال السطح ومن ثم الانطلاق الى الداخل في بدء عملية تنظيف المسجد من المسلحين المعتدين. وشهدت القوة المتقدمة مقاومة شرسة في الداخل خصوصاً في الملجأ حيث استخدم المسلحون قذائف ار بي جي وغيرها لوقف تقدم القوات السعودية. في الوقت نفسه كانت تتم دعوة المسلحين للاستسلام وجرت اكثر المحاولات كثافة لجعلهم يلقون السلاح بين 23 و25 نوفمبر لكن دون جدوى وتمت في النهاية السيطرة على الملجأ بين 26 و27 نوفمبر وبقيت بعض النقاط المقاومة المعزولة حتى الرابع من ديسمبر عندما اعلن القضاء على المسلحين او اعتقال من بقي منهم حياً. واشارت الوثيقة الى انه تم اعتقال 102 من المسلحين بينهم جهيمان بينما كان المهدي قد قُتل نتيجة جروح اصيب بها. وفي التاسع من يناير 1980 تم تنفيذ حكم الاعدام ب63 من الموقوفين بعد محاكمتهم امام قضاة شرع بينما تم خفض الاعدام عن 19 مسلحاً الى فترة سجن طويلة واطلق سراح 38 منهم بينهم مجموعة نساء. غياب التنسيق ولم تتأكد مشاركة اي قوة غير سعودية في الهجوم على المسجد لتحريره من المسلحين على رغم الاشاعات التي تحدثت عن اشراك كوماندوس من فرنسا في العملية. وتم انتقاد عدم التنسيق بين الاجهزة السعودية وعدم معرفة ما جرى من تخطيط للعملية خصوصاً ان الأجهزة كانت تراقب المجموعة عن كثب. ورأى اطراف ان ما جرى هو بداية لعدم الاستقرار في السعودية. واجرت السفارة البريطانية استطلاعاً لما جرى بين المقيمين البريطانيين في السعودية ووجهت اليهم خمسة اسئلة عما شهدوه وسمعوه ولخصت النتيجة بان 250 مسلحاً شاركوا في الاقتحام، وان 75 منهم قتلوا داخل الحرم المكي بينما تم اعتقال 170 كما قتل 60 من الامن السعودي وجرح 200 كما نقل مصدر بريطاني عن رجال امن سعوديين. وقُتل عدد من المواطنين السعوديين صدفة وخطأ داخل الحرم وخارجه. وافاد عدد من «المراقبين» البريطانيين ان ما حدث في المنطقة الشرقية اواخر نوفمبر لا علاقة له على الاطلاق بما جرى في مكة. وجاء في تقرير منفصل عن السفارة ان الحكومة السعودية اكدت للديبلوماسيين الاجانب ان احداث مكة لن تؤخر على الاطلاق مشاريع التحديث التي تجري في المملكة او في سياستها الخارجية عبر الانفتاح على العالم لكن بعض الامراء شدد على ان الحكومة ستتعاطى بحزم مع الفساد المالي حيث وجد. بي.بي.سي على هامش الاحداث طلبت الحكومة البريطانية من مجلس امناء هيئة الاذاعة البريطانية توخي الحذر في التعامل مع ما يجري والانتباه لكل ما تذيعه، خصوصاً في غياب اي شفافية في نشر الانباء الصحيحة عما يجري. وجاء في تقرير كتبه دايفي هاناي من دائرة الشرق الاوسط في الخارجية «ان بي.بي.سي اكثر استماعاً وتأثيراً في الرأي العام في الشرق الاوسط، وكل ما تذيعه في هذا المجال يمكن تصديقه». وتمنى المسؤولون في الخارجية على الهيئة عدم بث تقرير كان مراسل الهيئة في القاهرة يتحرى مصداقيته ويفيد نقلاً عن شاهد عيان مصري قوله «ان المسلحين الذين احتلوا الحرم المكي كانوا من رجال القبائل في المنطقة القريبة من الحدود مع اليمن». وافاد التقرير انه تم «شم رائحة الاستخبارات المصرية في التقرير، خصوصاً ان الرئيس انور السادات كان يشن حملة على السعودية». في الوقت نفسه تم اتهام الهيئة بان تقارير عن الحادث وجهتها الى الاراضي الباكستانية ادت الى احداث شغب في اسلام اباد. يُشار الى ان البرقية الاولى المفصلة، التي ارسلتها السفارة البريطانية في 21 نوفمبر عن الاحداث، نقلت صورة مغايرة للواقع واشارت الى ان الايرانيين هم الذين احتلوا المسجد الحرام. كما افادت البرقية التي حملت الرقم 51 الى ان محافظ مكة قُتل. ونقلت البرقية عن مخبر ان المحتلين احتجزوا الاف الرهائن وطالبوا بوقف صادرات النفط الى الغرب. وافادت انه يجري ارسال تعزيزات عسكرية الى مكة التي عُزلت عن باقي انحاء المملكة. وانه نقل كبار المسؤولين من جدة الى مكة بطائرات هليكوبتر. وتحدثت البرقية عن عدم تنسيق في شأن التعامل مع الاحداث بين مختلف فروع الامن المحلي. وشددت على انه لا خوف ان تنتقل احداث مكة الى خارجها او ان تجري في مدن اخرى حوادث مشابهة.