إن خطوة الملك جاءت في لحظة فارقة لتؤسس أرضية لمشروع عربي قادم في مواجهة مشاريع أخرى في المنطقة، وبالتالي فتوافق دول الخليج مع القاهرة على حزمة المصالح ونوعية التهديدات سيقود حتماً إلى إعادة الحيوية للتضامن العربي الجاد لم يعد سراً في أن المشكلات العربية مزمنة وبمرور الوقت تزداد صعوبة وتعقيداً، بدليل إشكالية إدارة الأزمات/ التحالفات سواء داخل المحيط العربي أو في النطاقين الإقليمي والدولي، ولذا فالنظام العربي حقيقة يواجه مخاطر وتحديات تهددان في أسوأ الأحوال وجوده، ما يعني بالضرورة تفعيل مؤسساته لأنه لا أمن إقليمياً ولا سيادة ولا استقلالاً إلا من خلال فهم تعقيدات اللعبة السياسية الدولية. غير أن المتأمل للوضع الإقليمي يلحظ بأنه يتسم بدرجة كبيرة من السيولة السياسية وتسارع المتغيرات وهي بمثابة تحديات ما يحتم التعاطي معها ومواجهتها ببلورة رؤية استراتيجية لا سيما فيما يتعلق بملفي الأمن القومي العربي والإرهاب. وفي هذا السياق يأتي اتفاق الرياض التكميلي وفي لحظة فارقة لينقذ مجلس التعاون من الانهيار ليعقبه بيان الديوان الملكي الذي جاء كخطوة هامة على صعيد مسيرة العمل العربي المشترك. وأتصور أن الأمر لن يتوقف هنا بل سيبنى عليه مواقف سياسية تؤدي في نهاية المطاف إلى تنقية الأجواء والدخول في مصالحة مصرية –قطرية. لم يكن خادم الحرمين مضطراً للقيام بالدور الذي جسده على أرض الواقع لولا استشعاره بمسؤوليته، والتاريخ سيسجل له في صفحاته مواقفه التاريخية واللافتة لدعم الشقيقة مصر. على أن الحضور الاستثنائي السعودي على الساحة الخليجية والعربية لم يكن وليد اليوم، وإن أخذ شكلاً جديداً يتمثل في التدخل الإيجابي قبل أو خلال حدوث الأزمات في إطار تغليب مصلحة الأمة على المصالح الضيقة والفئوية، وهو نهج يتناغم مع محددات سياستها الخارجية التي كان قد وضع ركائزها الملك المؤسس الراحل منذ زمن بعيد. كانت الدبلوماسية السعودية وما زالت تنزع للتدخل في اللحظات الحاسمة لإنقاذ الموقف العربي من الانهيار وذاكرة التاريخ مملوءة بالشواهد، ولذا من تابع نهج الملك، يوقن أن ما يقوم به من جهود وأفعال ومساهمات إنما هي أملته عليه عقيدته وضميره وانتماؤه لأمتيه العربية والإسلامية؛ لأجل هاجس مسكون في داخله هو تعزيز الصف العربي وحل قضاياه وهمومه. مصر تمثل العمق الاستراتيجي للأمن العربي القومي واستقرارها ينعكس مباشرة على استقرار المنطقة، ولذلك جاء بيان الديوان الملكي ليس بكونه وصاية أو توجيهاً بقدر ما تضمن نصيحة زعيم عربي لقيادة وشعب يكن لهما كل الاحترام. هي رسالة لتنقية الأجواء ما يدفع باتجاه دعم استقرار مصر وجمع الكلمة ووحدة الصف وبالتالي لا يمكن النظر إلى المشهد بمعزل عن التطورات الإقليمية والتفاعلات الدولية، فكانت بمثابة تأكيد لمسار مشروعه العربي لاسيما في ظل مشاريع إقليمية واختراقات ومحاور في المنطقة تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار هذه الدول. ولعل الذاكرة تعود بنا إلى قمة الكويت الشهيرة قبل بضع سنوات عندما طرح الملك فكرة المصالحة العربية وكان يؤكد عليها بين حين وآخر لقناعته الراسخة بضرورة تجديد شرايين العمل العربي، بل وتفعيله، مستنداً على رؤية مؤداها أن اختلاف وجهات النظر لا يعني أن تؤدي نتيجتها إلى القطيعة، أو الخلاف. ولذا عندما نجحت جهوده الخيرة تجاه دول مجلس التعاون وبمساع حميدة من أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد وكذلك بيانه اللافت تجاه مصر وربطها بالمصالحة الخليجية فإنما أراد ترسيخ منطلقات سياسة بلاده التي ترنو لتوحيد الصف العربي من أجل مواجهة المخاطر والتحديات المحدقة به. والحقيقة يجب أن نعترف بأن المواقف السياسية لدول الخليج في لقاء الرياض شهدت نضجاً خليجياً بأهمية استيعاب دقة المرحلة وخطورتها وضرورة ترتيب الأولويات بما يحقق أمن واستقرار هذه الدول. وبات ملحوظاً أنها ترفعت عن مرحلة من المماحكة والمناكفة، كون الظرف الإقليمي يستدعي تعاطياً مختلفاً ولغة جديدة وهو ما انعكس حقيقة على التجاوب الإيجابي مع دعوة الملك من كل الأطراف. إن قراءة المشهد من رؤية شمولية تقودك إلى قناعة واضحة في أن خادم الحرمين لا يلبث أن يبلور مشروعاً عربياً لمواجهة ما يطرح في المنطقة من مشاريع إقليمية كانت أم دولية، مرتكزاً على تعزيز المصالحة العربية؛ من أجل دعم المواقف العربية، وقبل ذلك إدارة الأزمات والخلافات العربية بالحوار والمصارحة. ولذا فهذا المشروع، في تقديري، يرفض الإملاءات والضغوط ويبلور رؤية تعزز توافق الآراء وليس بالضرورة تطابقها، وأتصور أنه سيرى النور، إذا ما توافرت الرغبة الجادة لدى كافة الأطراف، بتقديم تنازلات والقبول بتسويات للخروج بمواقف بصيغ توافقية إزاء الملفات المطروحة، ما يشكل جداراً حامياً للقضايا العربية وقطع الطريق لمن يتاجر بها. ولذا ومن باب الإنصاف نقول إن الدبلوماسية السعودية ساهمت في إنقاذ العمل العربي المشترك من الانحدار للهاوية، فضلاً عن احتواء الأزمات وانتهاج سياسة الحوار وتفعيل الاتصال مع الجميع وبالتالي فإن المشروع السعودي لم يأت من فراغ، وإن كانت استدامة نجاحه مرهونة بتوفر الإرادة السياسية لدى كل الأطراف في الالتزام بمضامينه والبناء عليه إذا ما أرادوا فعلاً تغيير الوضع القائم. إن خطوة الملك جاءت في لحظة فارقة لتؤسس أرضية لمشروع عربي قادم في مواجهة مشاريع أخرى في المنطقة، وبالتالي فتوافق دول الخليج مع القاهرة على حزمة المصالح ونوعية التهديدات سيقود حتماً إلى إعادة الحيوية للتضامن العربي الجاد، وإن كانت مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة على أي حال.