إذا كان الإنسان ذا طبع فاسد، ونية سيئة، وأفعالٍ قبيحة.. فإنه سوف يرى الناس بعين طبعه، كما يقول مثلنا الشعبي: (كل «ن» يناظر الناس بعين طبعه). فالرجل الذي يخون زوجته مثلاً، ينظر لها بعين الشك والريبة، ويفسر تصرفاتها وطلعاتها أسوأ تفسير، رغم أنها حصان رزان و(بنت أجواد) ولكن لأنه هو ساء فعله وفسد طبعه وفقد ضميره فقد ينظر لها بعينه الداخلية السوداء، والتي لا تعكس -في الواقع- إلا سواده هو.. سواد قلبه ونيته وفعله وتصرفه. وقد أبدع أبو الطيب المتنبي حين قال - والمتنبي من أقدر الشعراء على تصوير النفس البشرية في كل أحوالها، وفي كل زمان ومكان: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عداته وأصبح في ليل من الشك مظلم.. فهذا وأمثاله ليسوا في عيشة راضية.. فهم يضمرون الشر للناس فيرتد شرهم عليهم.. وهم يمكرون ولا يحيط المكر السيىء إلا بأهله.. هناك صنف من الناس وهم بحمد الله ليسوا كثيرين لا كثرهم الله - نواياهم سيئة .. ويتوهمون السوء في الناس.. ويفسرون المواقف والكلمات على أنها ضدهم وأن الآخرين لا يريدون بهم خيراً بل يريدون بهم شراً. هؤلاء يحسبون كل صيحة عليهم.. ويعتقدون أن الآخرين يتربصون بهم الدوائر.. لماذا كل هذا الاعتقاد الفاسد في الناس حتى المقربين الصالحين؟.. لأن أصحاب هذا الاعتقاد سبق لهم أن غدروا وكذبوا وفسدوا وأفسدوا العلاقات والصداقات فيعتقدون أن كل الناس مثلهم.. أو أسوأ.. فإن لكل إنسان في نفسه رأيا.. وهو رأي حسن في ذهنه المريض وضميره الميت، ولو لم يكن اعتقد أن رأيه السيئ حسن لعدل عنه وجاهد نفسه على البعد عن الشر.. ولكنه قد زُين له سوء عمله فرآه حسناً.. ولا تزال نفس الواحد من هؤلاء تنطوي على الشر طويلاً.، وتبيت النية السيئة غالباً، حتى يصبح السوء فيهم ضربة لازب ويصرفون ذكاءهم للمكائد والمفاسد.. حتى يسدوا أبواب الخير والصلاح أمام وجوههم بأيديهم. (قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). وسوء النية والفعل من قلة الدين والعقل والتجافي عن الحق.. فإن من جحد الحق - معنوياً كان أو مادياً - خبيث الطوية لا يلبث أن يصاب بكراهية متبادلة مع الناس وتضيق به السبل كما قال شاعرنا راشد الخلاوي: ومن ضاع عنه الحق ضاقت مذاهبه أما إذا ضاع دينه فقد غار أسفل سافلين: (ومن غار عنه الدين غارت مشاربه) أي هلك.. كما يهلك الظمآن لا يجد ماء.. والإنسان ليس ملاكاً ولا شيطاناً.. كل ابن آدم خطاء.. وخير الخطائين التوابون.. ولكن هناك جنساً من البشر يخطئ عن عمد ويعتبر خطأه صواباً.. ويضمر النية السيئة دائماً كأنها بندقية محشوة بالرصاص ويده على الزناد.. يظن ظن السوء في كل من صادفه.. بل وكل من صادقه.. فليس له - في الواقع - صديق ولا رفيق.. لأن الشر الذي في نفسه جعله يتوهم أن الناس مثله.. وأسوأ منه.. فهذا لا يريح ولا يستريح ولا يجد للسعادة طعما ولا يعرف لمكارم الأخلاق اسماً.. وهو مستعد للمجاراة في الشر لكنه يقبض نفسه عن الخير حتى لو هم به ذات مرة: يعالج نفساً بين جنبيه كزّة إذا هم بالمعروف قالت له: مهلا وترجمة (مهلا) تتحول في الواقع إلى (كلا).. هذا الصنف من الناس - هم قليل بحمد الله لا كثرهم الله - يفرحون بمصائب الناس ويشمتون، ويغتاظون إذا أصاب الناس خير ويكمدون، وهم ينشرون السيئات، ويقبرون الحسنات، والمبتلى هو من تضطره الظروف لمعاشرتهم!! وخير ما يعمله من ابتلاه الله بهم - إذا لم يجد لاصلاحهم أي سبيل - أن يعاملهم بالمثل الشعبي الذي رواه أستاذ الجيل عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- في كتابه الشهير (الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب) ج10 ص440 عن الشرير الذي يريد أن يتقاذف الشر مع غيره. والمثل هو: (قال زارقني وازارقك قال فارقني وأفارقك..!!) والمزارقة فصية، مأخوذة من (زرق الرمح) إذا حذفه على عدوه بسرعة خاطفة فزرق بين ضلوعه وأرداه!! وتقول شاعرة عصيمية كما روى ذلك العلامة عبدالله بن خميس - رحمه الله تعالى - في كتابه الشهير (الشواهد جزء3 ص44): الطيبين أمشي لهم بالمعاذير والخايبين لهم ثمان حصوات ويطلق على هذا الصنف الردئ من الناس، والذي امتلأت نفسه بالشر والسواد حتى ظن الناس مثله، وعاملهم على هذا الأساس.. يطلق عليهم (الأنذال) و(الأشرار) و(الأوغاد) ويقابلهم (الكرام) و(الأبرار) و(الأجواد) وهؤلاء هم زينة الحياة. قال محمد المهادي: الاجواد وان قاربتهم ما تملهم والانذال وان قاربتها عفت ما بها والأجواد وان قالوا حديث وفوا به والانذال منطوق الحكايا كذابها والاجواد مثل العدّ من ورده ارتوى والانذال لا تسقي ولا ينسقى بها والاجواد مثل البدر في ليلة الدجا والانذال غدرا تايه من سرى بها عبدالله بن خميس عبدالكريم الجهيمان