تتجلى صورة الطمع الفاضح المترعة بالأثرة والأنا؛ أنا ومن خلفي الطوفان، في ملاّك التراب وتجّاره وعقاريّيه، باختصاصهم الاستئثار بالأراضي المسورة والمشبّكة بدون أي تطوير أو استعمال أو انتفاع.. المتأمل في الصورة الحديثية التالية سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصَّلاةِ: "لَوْ أُعْطِيَ ابْنُ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا لابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" يعلم أن نفوس الطامعين إن لم تجد من يدحرها فستمتلئ أجواف بالتراب وستحرم أنفس من حق توفير الأمن السكني كأولية حقوقية للمواطنة. الرسوم والضرائب هي مسائل اقتصادية تخضع لحسابات مالية واجتماعية وسياسية لا دينية، وهذا الخلط مجرد محاولة تعطيل للنظام.. فرسوم الأراضي البيضاء مثلها مثل الرسوم التي تأخذها الدولة على رخص القيادة والتأشيرات والإقامات وساهر وغيرها، فلماذا رفضت أو عطلت رسوم الأراضي بالذات؟!! الحديث ورد بعدة أسانيد صحيحة في البخاري ومسلم ومسند أحمد، وفي رواية أنس (وَلَنْ يَمْلَأَ فَمَهُ إِلَّا التُّرَابُ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا أَدْرِي أَمِنْ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا كذلك قال أنس. لكن حديثا آخر يروي أن هذا الحديث من القرآن.. وأن عمر أثبتها كآية من سورة البينة، وفي رواية البزار: "وهذا مما كان يُقرأ فنسخ"، ولكن النسخ له مفاهيم ربما يتفق الناس في بعضها ويختلف في تعليلها آخرون، مما ليس بمجاله في هذا المقال. بغض النظر هل كان قرآنا أم حديثاً، لكن منظر أفواه التراب الشرهة يشخص أمامك كلما مررت على تلك الأراضي الممتدة داخل المجال العمراني المسوّرة والمشبّكة بعرض وطول البلاد، وبأن ملاكها ثلة عرفوا ب"تجار التراب" "وكل وشطارته" في الاستحواذ على أكبر مساحة ليتنافسوا بينهم على رفع السعر في أكبر عمليتي احتكار ومقامرة، بغرض تحصيل المزيد من تراب وأموال، بينما تقع نسبة السكان الأكبر خارج التغطية؛ خارج حق الغطاء الآمن للسكن، فأي تنافس بين أفواه التراب حَرمَ الأكثرية حقهم ببناء وطنهم الصغير في وطنهم الكبير بكل عنجهية وأثرة وأنانية لا يملأ شرهها إلا التراب!! لا ينتهي شر تجار التراب بملء بطونهم بالتراب، فبتجميدهم واحتكارهم الأراضي رفعوا الأسعار وصادروا حق متوسطي ومحدودي الدخل بتملك قطعة صغيرة، لتجد سعر المتر بأرضٍ شهباء لا ماء ولا مرعى بخمسة وأحيانا بعشرة آلاف ريال!! تستوقفني مسيرة الأفواه المفتوحة والتراب كظاهرة "عربية خالصة" تكرر باستمرار تموضعات الطمع والبغي وتعلّقها بأشد البشر دناءة، ارتبطت قديماً بشاعر المديح إذ يريق ماء وجهه باستدعاء ترابي لا يكلّ، فنؤمر بأن نحثو في وجهه "التراب" درءاً لجشعه الذي لا يملأه إلا التراب، إلى أن توفر في عصرنا في صورة ثلة إقطاعية جَشِعة لا تكلِّف نفسها التقلب في براثن قصائد المديح الخاسئة.. فأُعْطُوها وهم سامدون!! إذا علمنا أن العلة لتحريم الاحتكار هي التضييق على الناس واستغلالهم، والحكمة من تحريم الاحتكار دفع الضرر عن الناس، وتحقيق حاجاتهم، فإن ما لا شك فيه أن حبس الأراضي الشاسعة مع حاجة الناس لها يعد جريمة محرمة، وتحقيق المصالح في السياسة الشرعية توجب رد الأراضي للاستفادة منها لبناء بيوت لمن لا يملك بيتاً، هذا هو مناط الشريعة في تحقيق المصلحة، وقد فعلها عمر بن الخطاب عندما استرد أرضاً اقتطعها رسول الله لبلال بن الحارث "أرض العقيق" عندما لم يستطع بلال إحياءها قائلا له (لم يقطعك الرسول لتحجزه عن الناس، لم يقطعك إلا لتعمل)، فانظر ما قويت عليه فأمسكه، وما لم تقدر فادفعه إلينا نقسمه بين الناس، فرفض بلال وحلف ألا يرد الأرض، فرد عليه عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه أكثر الأرض فقسمها بين المسلمين.. في أعظم رسالة توثيقية لتفعيل الشرع في تنفيذ شعيرة الأمر بالمعروف/ رد الأرض لمستحقيها، والنهي عن المنكر/ احتكار بلال لها. لم يتوقف عمر عند أرض وهبها رسول الله لبلال، بل عمل بالمصلحة واسترد الأرض ليقسمها على المسلمين في زمانه الذي تغيرت فيه الحاجات وبنى عليها رد المصالح، فعمر وهو المعروف عنه توقيف النص لتغير المصالح، يجتهد ويوقف فعلاً قام به الرسول ويرد أملاكاً ليقسمها بالعدل بين الناس، ولنا أن نتصور المفارقة فيما فعله عمر وننظر لحق الإنسان في توفر حاجة المسكن ونعقد المقارنة، علنا ندرك أن القوة مع الحق هي ما يصلح الحال ويقيم المصلحة العامة على مستوى المساواة الحقة، من توفر حاجات الإنسان ودفع الضرر عنه من محتكر ومضِّر.. وما حبس الأراضي واحتكارها إلا تعمد لإلحاق الضرر بالمواطنين يجب حله. قبل فترة أعلنت وزارة الإسكان عن شح الأراضي ما سبب تعطيل تحقيق مشروع الملك عبدالله حفظه الله للإسكان، وكثر الحديث حول ضرورة فرض رسوم على الأراضي السكنية "البيضاء" الواقعة داخل النطاق العمراني كضرورة لتحقيق مشروع الإسكان، وبعد شد وجذب حُوّل الموضوع إلى هيئة كبار العلماء فوجد غالبية أعضاء الهيئة تحفظاً شرعياً على فرض الرسوم، مرجعين رفضهم إلى فتوى سابقة للهيئة قبل عشرة أعوام تفيد بعدم جواز ذلك، "لأن الأصل حرمة أموال المسلمين". حقيقة أعجبتني جملة "حرمة أموال المسلمين"!!! فأين محل الحرمة؟ ألمن لا يجد مقدار 300 متر ليقيم عليها سكنه؟! أم من اقتطع أراضي شاسعة حبسها واحتكرها وحرم الغالبية من الانتفاع بها؟!! يتضارب درس عمر بن الخطاب مع هذا التخريج الفقهي المغيب عن المصلحة، ولا غرابة؛ فعندما يغيب الإنسان تأتي الأحكام مجردة عن الحق وعن الغاية الأسمى؛ مصلحة الإنسان، وتظهر الأبعاد المفهومية للدلالات اللفظية معطلة عن حقيقة معانيها، لتسجل أحكاماً ضد المصلحة وبنص قديم يفتقد - إضافة لقدمه - استيعاب وفهم معنى وموقع "مال المسلمين وحرمته". تنظيم أمور الناس وتحقيق حاجاتهم لا يمكن إخضاعها لألفاظ فقهية مجردة بل لا بد أن توفرها لغة وحاجات العصر وإنسان العصر، وهذه مشكلة مستدامة للقراءة الفقهية المفصولة عن الواقع وأهله فضلاً عن فقدان استشرافها لأي مستقبل؛ قريبا كان أو بعيدا.. في قصة عمر حضر الإنسان فحضرت مصالحه، أما إذا غاب الإنسان فاقرأ على مصالحه صلاة الغائب. لا أعتقد أن أصحاب الأراضي البيضاء يهمهم دفع زكاتها، لكن بعض أعضاء الهيئة خشي أن يجمع على أولئك الإقطاعيين الزكاة والرسوم، برغم أن الزكاة لا تجمع منهم بل يوزعونها على من يريدون إذا أرادوا... لا يجبرهم عليها أحد.. "بلال" في القصة السابقة لم يداهن بأنه يدفع الزكاة، وعمر يعلم أن دفعها أمر بينه وبين ربه، ولكن تحقيق العدل يتطلب تنظيماً ومتابعة وقوة تنفيذ لذلك أخذ الأرض حيث يطبق شرعة العدالة في حفظ مصالح العباد ودرء الإضرار عنهم. بما أن تحقيق "العدل" يوفر الحقوق للمواطن وينعش اقتصاد الوطن، فقد لحقت بالاقتصاد الوطني أضرار فادحة جراء هذه الآلاف المؤلفة للأراضي البيضاء المحجوبة عن السكن والانتفاع والتطوير، حيث يقدر الخبير الاقتصادي الوطني عبدالحميد العمري "مساحة الأراضي الشاسعة بنسب تتراوح بين 45 و70 % في المدن الآهلة بالسكان، التي لم يطرأ عليها أي انتفاع أو تطوير، بل بقيت كمخزنات ثروات هائلة يقدر تجاوز أثمانها المبالغ فيها بأسعار الوقت الراهن بأكثر من 9 تريليونات ريال، وهو ما يتجاوز ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني".. فهل استوعب أهل الحل الحال وخطورته؟!! أتمنى ذلك. إن كان فعل عمر يمثل الحل المثالي لتوفير الحاجة وتحقيق العدالة، وهو كذلك، فليس أقل من توفير "بعض العدل" على قاعدة ما لا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه أو أقله؛ بفرض رسوم على الأراضي البيضاء بحسب دراسة واضحة للحق العام وحق المشبكين والمسورين أيضاً. ذكر أحد القانونيين بأن النظام الأساسي للحكم نص على آلية فرض الضرائب والرسوم وربطها بتوفر شرطين هما الحاجة والعدل، وفي أزمة ارتفاع أسعار الأراضي تجلى للجميع توافر الشرطين، وأن فرض الرسوم بحسب الآلية المنصوص عليها يمر عبر خمس خطوات هي؛ الاقتراح من مجلس الوزراء أو مجلس الشورى، ثم مناقشته الاقتراح، فالتصويت عليه، وبعدها يصادق عليه الملك، وأخيرا ينشر، وبذلك فموافقة هيئة كبار العلماء أو عدم موافقتها لا تعد مرحلة من مراحل إصدار النظام ولا يلزم المرور بها. الرسوم والضرائب هي مسائل اقتصادية تخضع لحسابات مالية واجتماعية وسياسية لا دينية، وهذا الخلط مجرد محاولة تعطيل للنظام.. فرسوم الأراضي البيضاء مثلها مثل الرسوم التي تأخذها الدولة على رخص القيادة والتأشيرات والإقامات وساهر وغيرها، فلماذا رفضت أو عطلت رسوم الأراضي بالذات؟!!.. الإجابة متروكة لك عزيزي العاقل. توفير السكن مطلب تنموي أولي، وعدم توفره يورث أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة، يفترض أن يتصدى المجلس الاقتصادي الأعلى لحلها قبل أن تتضخم المشكلة ويصعب السيطرة عليها وعلى آثارها الجانبية.. فالعقلاء يدركون قيمة مواجهة المشاكل الاقتصادية بالمساهمة في تعزيز الوحدة الوطنية وغرس عاطفة الانتماء والولاء الوطني. ختاماً: بعضهم يستخدم العقل في نفي العقل؛ فيلوي عنق الشريعة لتؤدي لتوفير النهب المالي للمتغلب على حساب توفير الحاجات الأساسية لعامة الناس.. عليهم أن يفيقوا؛ فنحن في زمن "العصر" لا التمسح ببركة التراث العتيق.