كثيرًا ما نسمع عن مصطلح “الأراضي البيضاء”، أو “الأراضي المجمّدة” من قبل مالكيها لفترة طويلة داخل المدن، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ هؤلاء الملاك يتحينون الفرصة المناسبة لبيعها في يوم من الأيام بأضعاف مضاعفة من سعرها الأصلي. حول هذه القضية تواترت مقترحات عديدة بضرورة الحد من تلك الظاهرة، فهناك عشرات الآلاف من قطع الأراضي المتروكة داخل الأحياء والمدن من دون الاستفادة منها، حتى وصل الحال بمن يسكنون بجوار هذه الأراضي إلى التذمّر والتضجر من تركها بلا استثمار. ويرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أنّ حلّ هذه الظاهرة يكمن بفرض ضرائب أو زكاة على ملاكها لدفعهم نحو بيعها أو استثمارها، أو الحد من أسعارها المرتفعة، لكن يبقى السؤال الأهم: هل يجوز فرض رسوم سنوية على الملاك؟ وهل يعدّ ذلك الأمر تدخلًا في الملكية الشخصية لهم؟ أم أنّه نوع من تقليل الضرر المترتب على المواطنين الذين يعانون ارتفاع أسعار الأراضي أو ما يسميه البعض استغلالًا واحتكارًا من قبل فئة معينة من المجتمع؟ أسئلة طرحتها “الرسالة” على عدد من الفقهاء الشرعيين، والخبراء الاقتصاديين في هذا التحقيق التالي. ملكية خاصة بداية يعتبر العميد السابق لكلية الشريعة بالرياض الدكتور سعود بن عبدالله الفنيسان أنّ الأراضي المجمّدة أو ما يعرف بالأراضي البيضاء داخل الأحياء والمدن هي حقوق خاصة، ولا يجوز وضع ضريبة أو رسوم سنوية عليها، إلاّ إذا رأى ولي الأمر أنّ هناك منطقة من الأراضي بها فراغات كبيرة وتحتاج إلى أن تملأ بالسكان، وقال: يمكن إلزامهم بإجراء معين، كأن يقوموا بإحيائها أو استثمارها للاستفادة منها، دون وضع رسوم أو ضريبة مترتبة على تلك الأراضي. ويواصل الفنيسان: ملاَّك الأراضي أحرار في التصرّف بأملاكهم، فهي تدخل ضمن إطار الملكية الشخصية، كأن يقوم صاحب الدكان مثلًا بترك سلعة معينة لا يريد بيعها، وله الخيار في ذلك، وكذلك نفس الأمر ينطبق على الأراضي، لكن إذا جاء أمر من ولي الأمر بفرض رسوم أو ضرائب على هذه الأراضي بسبب وجود احتكار أو استغلال في أراضٍ معينة، فهذا أمر آخر، مع التأكيد على أنّ لملاك الأراضي حرية التصرّف في أموالهم كيفما يشاءون شريطة ألا يحدثوا ضررًا على الآخرين، أو أن يؤدي تصرفهم إلى احتكار سلعة معينة، وهو ما أرى أنه غير واقع في قضية الأراضي. ضريبة لمنع الاحتكار أما الأكاديمي والباحث في الشؤون الشرعية الدكتور محمد صالح العلي فيرى أنّه إذا ثبت أنّ هدف هؤلاء هو الاحتكار من أجل رفع السعر، فيجوز أن تفرض عليهم رسوم، لأنّ الإسلام يحثّ على استثمار الأراضي والاستفادة منها بإقامة المشروعات عليها، وتركها من دون فائدة يعدّ مخالفة للشريعة الإسلامية. ويقول: فرض رسوم أو ضرائب على ملاك الأراضي يصبّ في المصلحة العامة من أجل منع تعيين الاحتكار على سلعة معينة، ودفع ملاكها لاستثمارها، ولولي الأمر الحق في فرض مثل هذا القرار لأن فيه تحقيقٌ لمصالح الناس التي تقتضيها الشريعة. ويبيّن العلي أن جشع التجار وتلاعب المضاربين يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأراضي من خلال إبقائها لفترة طويلة من دون الاستفادة منها، ويقول: هذا التصرف فيه ضرر على أصحاب الدخل المحدود الذين لا يتمكنون من شراء قطعة أرض ليقوموا ببناء مساكن عليها، فتجد أنّ تجار الأراضي لدينا لا يكترثون لهذه المسألة، لذلك أقترح إيجاد أنظمة وتشريعات تنظّم مثل هذا الأمر وتحدّ من تلك التصرفات. سلعة غير ضرورية وفي السياق نفسه يرى الداعية الإسلامي الدكتور محمد موسى الشريف أنّ الأصل في مثل هذا الأمر أنّه غير جائز، لأنّ الملكية الشخصية في الإسلام تعدّ ملكية مطلقة ما لم تصل إلى حدّ الإضرار بالآخرين، وقال مستدركًا: إذا وصل الأمر إلى حد الإضرار بالآخرين فهنا يمكن للدولة أن تتدخل لإيقاف مثل هذه الممارسات، لكني أتساءل عن المصلحة التي تؤدي إلى فرض مثل هذه الرسوم وبخاصة أنّ كثيرًا من هذه الأراضي البيضاء قد تبقى لفترة كبيرة من الزمان. ويوضح الشريف أنّ المراد بقضية الاحتكار هو أن تكون في الأمور الضرورية، فهنا لا بدّ أن تقدّر المصلحة بقدرها، فإذا كان تصرّف ما أو أمر معين يعود بالضرر على المجتمع فإنّ على الدولة أن تمنعه وتوقفه. وحول ضعف قدرة الكثير من المواطنين على بناء منازل خاصة لهم من جراء ارتفاع الأراضي الكبير ردّ الشريف قائلًا: “ليس من الضروري أنّ يقوم كل مواطن ببناء فيلا أو عمارة، وإلا أصبحنا قريبين من النظرية الشيوعية التي تنادي بأنّ يكون جميع المواطنين متساوين ومتقاربين في الدخل، الحكم على الأمور يكون على المصلحة الحقيقية، وليس على المصلحة الموهومة، فهنا هل يجوز أن أسوق مبررات موهومة وإجبار أهل الأراضي على بيع أراضيهم؟ ويشدد الشريف مرة أخرى على أنّ الاحتكار لا يكون إلاّ في المتطلبات الضرورية للأمة كالطعام، والدواء، فإذا غالى التجّار في هذه السلع، ورأى ولي الأمر احتكارًا عليها من قبل جهات معنية، هنا عليه أن يتدخل لمنع مثل هذا الأمر، أما بالنسبة للأراضي فهي تعتبر من المتطلبات غير الضرورية التي لا يدخل فيها الاحتكار، لكنّ الشريف استدرك في حديثه قائلًا: إلاّ إذا قدّر ولي الأمر أنّ هناك مصلحة من جراء فرض الضرائب أو الرسوم، فهنا لا بدّ أن يتدخل، ويستشير العلماء والدعاة لإيجاد رؤية شرعية لمثل هذا الأمر. ضرائب غير شرعية وبدوره يؤكدّ الأكاديمي والخبير في المعاملات الاقتصادية الإسلامية الدكتور حسين شحاتة أنّ مثل هذه العقارات إذا ترتب عليها ضرر من قبل مالكيها على الآخرين، فمن حقّ ولي الأمر أن يزيل الضرر المترتب عليها، ومن الناحية الشرعية يفرض عليها زكاة قدرها 2.5% وذلك بهدف إحداث سيولة في المجتمع، والإسهام في حركة المجتمع، وقال: أما إذا لم يترتب على تلك الأراضي البيضاء أي ضرر على المواطنين فإنّه لا يجوز بأي حال من الأحوال فرض رسوم أو ضرائب عليها، لأنّ ذلك يعني بوضوح تدخلًا في الملكية الشخصية للفرد ما لم يحدث ضررًا على الآخرين. الحل في التسوير من جهته يبدي الدكتور بهاء عزي الأكاديمي والمختص في الشؤون الاقتصادية تحفظه من مسألة فرض ضريبة أو زكاة على الأراضي البيضاء قائلًا: لا أرى من العدل فرض ضريبة على مثل هذه الأراضي، ولكني أرى فرض نظام يوجب بناء أسوار حولها، لتبدو بشكل لائق أكثر جمالية، وعند الامتناع عن ذلك تقوم الجهات المختصة بإلزام المالكين بتسويرها. ويستغرب عزي من ترك كثير من الملاك لأراضيهم لمدة طويلة دون استغلال أو انتفاع فأصحابها على حد قوله مستغنون عن دخلها، ويقول: هناك العديد من الأراضي متروكة لفترة وصلت إلى 30 أو 40 عامًا ولا يعرف السكان المحيطون بتلك الأراضي عن مالكيها شيئًا، ويشير عزي إلى أنّه وبصفته مستشارًا في القضايا الاقتصادية كان ينصح العديد من المستثمرين باستثمار أموالهم في المجال العقاري، لأنّه يعدّ وسيلة آمنة ومجدية في نفس الوقت، فالأرض مهما طال الزمان تبقى قيمتها حاضرة وبدون خسائر وهذا الذي يدفع الملاك لترك أراضيهم لفترات طويلة حتى يعطوا الأسعار فرصة للارتفاع. الصاوي: التجميد سببه أن الاستثمار في المجالات الأخرى يعاني من الركود يؤكد الباحث والكاتب المتخصص في الشؤون الاقتصادية الدكتور عبدالحافظ الصاوي أنّ مثل هذا الأمر يجب ألا يؤخذ بنظرة أحادية، ويقول: تجميد الأراضي عند الكثير من الملاك يرجع إلى أنّ الاستثمار في المجالات الأخرى يعاني من الركود، وهذا ما يدفعهم نحو استثمار آمن متمثل في شراء الأراضي وتركها لمدة طويلة. ويضيف الصاوي: الاستثمار في مجال الأراضي يحول دون خسائر كبيرة قد يتعرض لها المستثمرون، إذ إنّ الدخول في مشروعات صناعية يعود بدخلٍ قليل على المستثمر، حتى البنوك الإسلامية فإن أعلى عائد تمنحه هو 2%، فيما تصل نسبة التضخم إلى 9% في منطقة الخليج العربي، لذلك بأنّ شراء الأراضي هو الملاذ الآمن للمستثمر، حيث إنّ أسعارها إن لم ترتفع فإنّها حتمًا لن تنخفض. ويوضح الصاوي أنّ فرض رسوم أو ضرائب على الأراضي البيضاء لا بد أن يكون آخر الحلول، فلا بد من توفير أرضية مناسبة للملاك ورؤوس الأموال لأجل الاستثمار في مجالات أخرى غير مجال العقارات، ويقول: ربما يتحايل البعض على تلك القوانين أو التشريعات التي قد تفرض على الأراضي، حيث يعمد المالك الأصلي للتخلص من هذه الضرائب أو الرسوم إلى بيع الأرض التي يمتلكها إلى زوجته مثلًا، أو إلى أبنائه وهكذا. وحول الخروج من ظاهرة الاحتكار أو الاستغلال التي يتعرض لها المواطنون من قبل بعض التجار الذين يملكون مساحات واسعة من الأراضي، يؤكدّ الصاوي أنّ الخروج من هذه الحالة يتمثّل في تقديم قروض ميسرة للمواطنين ليتمكنوا من بناء بيوت مستقلة بهم، أو توفير أراض مخصصة بمساحات واسعة لأصحاب الدخل المحدود أو الفقراء ليتمكنوا من بناء مساكن خاصة عليها، إضافة إلى منع الأغنياء من بيع وشراء تلك الأراضي وتداولها بينهم. دحلان: يمكن إنفاق عائد هذه الزكاة أو الضريبة لصالح مشروعات خدمية حكومية وللخبير الاقتصادي وعضو مجلس الشورى السابق الدكتور عبدالله صادق دحلان رؤية مغايرة في هذا الشأن حيث يبدي بدون تحفظ انحيازه لجانب الفقراء ومحدودي الدخل، داعيًا إلى منحهم الفرصة لامتلاك المساكن أسوة بالأثرياء، ويقول: طالبت منذ فترة طويلة، وقبل شهور وسنوات، بضرورة وضع ضريبة أو زكاة على الأراضي المتروكة داخل المدن من قبل ملاكها والمرشحة أسعارها باستمرار للزيادة. هناك آراء متعددة تؤكدّ ضرورة أن يدفع ملاك هذه الأراضي زكاة سنوية، وفي المقابل هناك بعض المجتهدين الذين لا يرون اشتراط دفع هذه الزكاة. ويضيف دحلان: بعض المجتهدين رأى أنّ الأرض التي تترك لسنوات طويلة دون إعمار تترتب عليها زكاة، لأنّها لم تعد ضمن الإطار الشخصي، وإنّما دخلت ضمن الإطار التجاري، كما أن من حق المواطنين الذين لا يملكون المساكن أن يستفيدوا من الأراضي المتروكة لسنوات طويلة دون استغلال، حيث انّ هناك آلاف المواطنين لا يملكون القدرة على شراء قطعة أرض تمكنهم من بناء مسكن عليها، لذلك أرى أن ظاهرة تجميد الأراضي تعدّ استغلالًا واحتكارًا من قبل فئة معينة من المجتمع. ويقترح دحلان إنفاق عائد الزكاة أو الضريبة المترتبة على الأراضي المجمّدة لصالح مشروعات خدمية تقوم بها الدولة، ويقول: هذا النظام معمول به في الدول الصناعية الغربية وخصوصًا في الولاياتالمتحدة التي تقوم بدورها في استثمار الضرائب المترتبة على الأراضي في مشروعات تنموية تعود بالنفع العام على مجتمعها. ويطلب دحلان من الجهات المختصة فرض ضريبة قدرها 3 بالمائة سنويًا من قيمة الأرض، أو العمل على تفعيل نسبة الزكاة المعروفة والتي تقدّر ب2.5%، موضحًا أنّ هناك عشرات الآلاف من قطع الأراضي موجودة في وسط المدن وعلى وجه الخصوص بين مدينتي مكةوجدة، حيث يرى دحلان أهمية استغلالها في بناء مدن سكنية عليها، لأنّ المواطنين في حاجة ماسة لها. وحول مدى تطبيق مثل هذا الاقتراح من قبل الجهات المختصة، والمتمثّل في فرض ضريبة أو زكاة على الأراضي المجمّدة، يقول دحلان: بصفتنا مثقفين ومواطنين نطرح الآراء والأفكار، وصاحب القرار عليه أن يقرر، لكن نقول إنّه ليس من العدل والإنصاف أن تترك هذه الأراضي سواء كانت في داخل المدن أو في أطرافها دون أن يستفاد منها. ويختم دحلان حديثه بالتأكيد على أهمية قيام الدولة بنزع ملكيات مثل هذه الأراضي المتروكة لسنوات طويلة لصالح مشروعات تخدم المصلحة العامة، أو على أقل تقدير فرض رسوم عليها لأنّ حجزها ليس للاستفادة الشخصية وإنّما هو للمتاجرة بها، حيث انّ فرض مثل هذه الضريبة من شأنها أن تؤدي إلى توجّه ملاك الأراضي إلى بيعها أو العمل على التقليل من الارتفاع الحاصل عليها.