الأحداث لم تعد تحتمل التغييب أو الاتكال على فعل التثبيط والمهادنة بانتظار ساعة فرج، فالإرهاب الدموي بعد أن كان مخفياً بتأصيله التنظيري انفجر وأصبح يهدد صراحة بقادم أسوأ، انكشفت الأوراق وتجلت الحقيقة بارزة بفعلها الإرهابي الواقف خلف طاقة لفظية اتقت حقيقتها المباشرة إلى التدليس والترميز لتشتعل بعد طول احتضان بأفعال وحشية تمثل للشيطان تحدياً أعلى.. لتسلطها المتوحش على الدماء والأنفس والحريات والكرامة.. أمن الوطن خط أحمر لابد أن يدفع الجميع لرؤية أوسع أفقاً واستشرافاً كيما تترسخ قيم المواطنة على أساس ثابت من الانتماء والولاء الإنساني المبارك.. وهذا دور جميع المؤسسات بأن يعتلي قمة هرم أهدافها مجتمعة؛ أن يحيا الأفراد حياة كريمة يسودها العدل والأمن والكرامة والحرية إنسان العصر الحديث؛ إنسان الوطن، له مكتسبات يخشى عليها حال أي انفلات أمني، وليس أولى- مهما بلغت المكتسبات من مغنم- من مكسب الشعور بالسلم والأمن والأمان والاطمئنان كحاجة أولية يحسب العقلاء لاتقاء فقدها مليون حساب.. لذلك؛ تتجاوز مسؤولية تحقيق الأمن مهمة حدود الإيقاع بالجاني المجرم، إلى ضرورة قراءة فكره؛ لتفكيكه ودحره، ومخططاته؛ لدحضها واتقاء شرها.. ومن ثم تقديم العلاج الأمثل للقضاء على الإرهاب لتحقيق نعمة الأمن في الأوطان.. "خلية تمير" تمثل حكاية أبعاد الخلايا الإرهابية المكونة لوجودها وتكاثرها؛ الفكر الذي يتجسد في أفراد الخلية الثمانية المرتبط مباشرة بالخطاب الديني ومنابره ومؤسساته المباشرة وغير المباشرة، تحددها خلية تمير كملامح رئيسة للفكر الإرهابي؛ أهله المنظرون وحاضنوه الفاعلون ومصدِّروه الناقلون؛ أئمة مساجد، ومدرسو جمعيات تحفيظ القرآن، فتعطي مؤشرات حقيقية لقراءة واضحة مستفيضة لتبعات الاستيراد والتصدير الإرهابي من منابعه الأصلية إلى واقعه المتقد.. قياديو الخلية "علي السلوم عضو مجلس بلدي وإمام وخطيب جامع المبايض، وحمد الريس عمل مديراً لمدارس تحفيظ القرآن الكريم، وكان إماماً وخطيباً لجامع الخالدية قبل أن يتم إيقافه منذ سنوات، ومنصور المناع كان يعمل في "المحكمة"، وشخص يكنى بأبي أسامة، وهو إمام وخطيب الجامع الكبير بتمير" إذاً يمثل أهم قياديي خلية تمير 3 من أئمة أكبر جوامع تمير.. تؤكد جريدة مكة أن القيادي في هذه الخلية "المناع" كان ممن انضموا لتنظيم القاعدة في أفغانستان وأُعيد إلى السعودية عقب ضبطه في أفغانستان، وسجن لفترة في السعودية وأطلق سراحه قبل أعوام. وقد ساهمت الدولة بإنشاء مصنع تمور له، وكان يعمل على تجنيد الشباب وإرسالهم إلى جماعة داعش في سورية والعراق".. من المؤكد أن حالة تمير ليست الوحيدة، وأنه إن كان في تمير من بلغ عن هؤلاء الإرهابيين فالمناطق الأخرى لم وقد يكون لن تصل لهذا التوخي الأمني المعتّد بالضمير النابذ للإرهاب والإرهابيين.. يحيلنا التشكل المعرفي لبيئة "خلية تمير" لضرورة التفكير في الخطاب الديني المعاصر، حيث يورد د. حامد أبو زيد رحمه الله حقيقة تكاد تكون عامة بشأنه، فيقول"الحقيقة أن الناظر في الفارق بين المعتدل والمتطرف من الخطاب الديني لا يجد بينهما تغايرًا أو اختلافاً من حيث المنطلقات الفكرية أو الآليات، ويتجلى التطابق في اعتماد نمطي الخطاب على عناصر أساسية ثابتة في بنية الخطاب الديني بشكل عام، عناصر غير قابلة للنقاش أو الحوار أو المساومة" كتاب قضايا فكرية ص 45... هذه المنطلقات والآليات في الخطاب/المعتدل والمتطرف إضافة لالتقائها في خاصية التطرف والكراهية، فإنها تغفل القيم الكونية العليا وتهمل الأخلاق وتشوه الضمير والحرية بأبشع مايتم به التشويه.. لذلك نجد هذا الخطاب وفي مؤسساته التي تزعم الاعتدال يصر على استخدام مصطلحات لا تتناسب وحجم الدمار الإنساني للإرهاب، كوصف الإرهابيين ب"الفئة الضالة"!!، لينكشف الغطاء عن رفض عشرات الأئمة تطبيق تعميم وزارة الشؤون الإسلامية بالتنديد بجريمة شرورة في خطبهم.. ما يعتبر التقاء في التأسيس الأيديولوجي لتقبل الإرهاب بل وتأييده.. أما ما اصطلح عليه ب"المغرر بهم" فهي لغة تضيف مأساة أيديولوجية لاستراتيجيات التربية والتعليم المشتبكة مع ذات الخطاب المهيمن على التعليم الذي يطمح لتكوين أحادية مهيمنة على ذهنية الجميع تفقد معها تكوين المسؤولية الفردانية لبالغي العقل والرشد بحرية مكفولة. تأمن على رأيها المختلف من أحادية أرثوذوكسية بالغة القطع والحدة واليقين..فالغالبية العظمى يدخلون ضمن مصطلح "المغرر بهم" إذا ماحرموا من التفكير الحر وحق حرية الاختلاف.. وتأتي فكرة "احتكار الإسلام" كأساس تأصيلي تمد الإرهاب بالطاقة العقائدية تغذي بها المتطرف ليبث من خلالها استعداءه وكراهيته للإنسان، فيتمرحل خلالها بعداوات متنوعة، تمر بالمختلف ديناً، فالمختلف مذهباً، إلى المختلف درجة في التشدد والتطرف والغلو، بخطاب يحمل بذور الشقاق والعداوة للإنسان وإن زعم أنه يضبط جهاد كراهيته بضوابط احترازية.. يضاف لهذا الخطاب الإصرار على الشكلانية التي خلقت نوعاً من التردي الذهني لمفهوم الدين الممزوج بالنفاق، ليصبح المتلقي في إيمانياته مرتبطاً بهذا المتأزم مع شكله في كل مايقبل ويرد.. هذه الشكلانية الموحدة يطلق عليها لفظ "الملتزمين أو المطاوعة" وقد حذر منها الدين قبل المصلحين، كونها تغليباً لجانب السطحية على حساب التفكير ورمزية تقدم النفاق على حساب الإيمان الصادق الذي لا يحتاج المؤمن لكشفه للعباد، فيحضر شكل الملتزم في الأذهان محدداً ب(لحية، ثوب قصير، وغترة بدون عقال) ليمثل دائرة مغلقة على الحقيقة المطلقة والخط الأرثوكسي المطلق والوحيد.. هذا الاحتفاء الشامل بالشكلانية يورث اتهام المعتقد في النهاية بمحاربة الحريات ويشوه الحقيقة الدينية أشد مايكون التشويه وينسب العبث بالكرامة الإنسانية لمنهج الله، بينما الله تعالى حدد وظيفة "رسله" وهم رسله بالتبليغ لا الحساب"إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" "ماجعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل" بينما شكلانية الملتزم تعطيه الحق بأن يفرض نفسه حفيظاً ووكيلاً ومحاسباً.. وكنتيجة مؤكدة لفكر وخطاب ديني يعتمد على الشكلانية المطلقة وطقوس مفرغة من العقلانية والقيم الأخلاقية العليا والضمير الإنساني الحي تنفتح الظاهرة الدينية على مصراعيها ويصبح من الصعوبة إن لم يكن الاستحالة متابعة ومراقبة أماكن خرج منها الإرهاب ورجاله.. والحقيقة؛ أنه لو كان الهوس بطقوس الدين يحقق الغرض من الدين لكانت بلادنا أبعد البلدان عن الإرهاب، ولكن الحقيقة معكوسة تماماً، حكاية مدارس تحفيظ القرآن مثلاً مجرد استهلاك للظاهرة الدينية تشكك في مدارس التعليم العام الذي تمثل فيه المواد الدينية نصف المواد تقريباً، "فهل مدارسنا تدرس الإنجيل"؟!سؤال هام للكاتب قينان الغامدي ينطوي عن البحث عن حكمة استمرار الكتاتيب في زمن المدارس الحديثة!! لقد آن أوان توجيه بوصلة الدين للإنسان الذي هو الغاية النهائية للمصالح الدينية كلها. وإني لواثقة أنه لو أغلقت جمعيات ومدارس تحفيظ القرآن ووزعت تكاليف المساجد المنتشرة بعشوائية الزائدة عن الحاجة على إنشاء مجمعات سكنية للفقراء وبناء مراكز إيواء للمحتاجين لما نقص من الدين شيء ولما تعطلت الصلوات، ولا هجر القرآن، ومعها سنكون حققنا المسؤولية الإيمانية الأخلاقية المتمثلة في الإحسان للإنسان.. لقد استطاع الهوس بالطقوس المفرغة أن يقلب الحياة إلى ركود واكتئاب، ويغلق الخيارات أمام الإنسان ويحجر على البهجة والفرح والفنون، مختصراً النشاط المتاح بمحاضرات دينية لكل المناسبات، لكن هذا التفشي ذا الصبغة الدينية في الحياة ليس منهج الله وإن ادعى الكاذبون.. تشتد حاجتنا اليوم لتفكيك أفضل لدوافع عالم فكري مرهق بالإيديولوجيا أكثر من أي وقت مضى، بالإلتفات لأمور بنيوية كبرى لعل أهمها: *إعادة مفهوم معنى الإسلام والتأكيد على أنه "من سلم الناس كافة من لسانه ويده"، وكف يد الإرهاب الدموي باسم الجهاد وقطع الصلة مع كل أسبابه العدائية ضد السلم والأمن العالمي.. * فرض التلازم بين القانون والإجراء وبين القانون والقيم، وهو جانب مفقود غالباً في الأحكام التي تفتقر لاعتبار حق هذه الموازنة الهامة لإقامة العدل وتحقيق المصلحة بسبب غياب التقنين؛ والخلط بين الخطأ الخاص والجرم العام، فنفاجأ بأحكام عشرات السنين لأمر أخلاقي لا يتعدى المرء نفسه، في مقابل بضع سنوات قليلة لمن يثبت عليه مشاركة في الأعمال الإرهابية!! لعل أبلغ ماجاء في هذا المعنى في مقدمة" أقوم المسالك" من تفسير شيخ الإسلام الحنفي محمد بيرم الأول، للسياسة الشرعية بأنها:" مايكون الناس معه أقرب إلى الإصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي.." وهي نظرة شرعية وتنظير تشريعي مدني يحسب تطور الحاضر وتغيراته،.. فجانب التشريع وجميع مايتعلق بالوظيفة الاجتماعية للإنسان خاضع لسنة التطور التاريخي، ومتطلباته تلزم الفصل بين الزمني والروحي كما توجب الفصل بين الدين والسياسة، الذي يعمد لخلطه رجال الدين لأجل الاستحواذ على المجتمع وإقامة دولة الخلافة التي تدعو لها داعش.. فهل نستفيق!! ولنا في تجميد الإسلام وخلطه بالسياسة مانراه من بشاعة الإجرام الأصولي الإرهابي ممثلاً في سلوك الجماعات الإرهابية المتوحشة.. للاتعاظ والاعتبار: يشير الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية حمود العتيبي في تقرير ل"الرياض" بأن "داعش والقاعدة اتفقتا على استهداف السعودية، ويؤكد بأن خلية تمير التي تم القبض على ثمانية من محرضيها، أسهمت في زج 35 من شباب تمير إلى تنظيم داعش الإرهابي، سبعة منهم التحقوا بداعش خلال أسبوع واحد فقط، وأن أعداد المنضمين للتنظيمات الإرهابية في سورية والعراق خاصة تنظيم داعش تجاوز 1500 شاب سعودي.. مبينا مدى تهديد تلك التنظيمات للأمن السعودي، ليس فقط من أجل الزج بالشباب في مواطن القتال، بل من أجل تهيئتهم هناك ومن ثم إعادة إرسالهم للسعودية للقيام بعمليات إرهابية، وهو ما اعترفوا به صراحة في وسائل التواصل الاجتماعي، بأنهم قادمون وسيقتحمون السجون وسيغتالون رجال الأمن" ختاماً: أمن الوطن خط أحمر لابد أن يدفع الجميع لرؤية أوسع أفقاً واستشرافاً كيما تترسخ قيم المواطنة على أساس ثابت من الانتماء والولاء الإنساني المبارك.. وهذا دور جميع المؤسسات بأن يعتلي قمة هرم أهدافها مجتمعة؛ أن يحيا الأفراد حياة كريمة يسودها العدل والأمن والكرامة والحرية.. حفظ الله وطننا من شر المكفرين الكافرين بالإنسان البائعين للأوطان..