تناولت في المقال السابق حديثاً أسترالياً حول تحديات التاريخ التي تواجه السكان الأصليين لها والذين يؤرخ وجودهم بها بما بين خمسين إلى ثلاثين ألف سنة وفق تقاليدهم وموروثهم التاريخي، ويتبقى التحقق منه آثارياً والذي هو في مراحل أولية. وكانت الفرصة هي عقد مقارنة بين شعبي أستراليا ونيوزيلندا الأصليين بعد زيارة لكلا الدولتين والتعاطي المباشر مع السكان الأصليين في نيوزيلندا على وجه الخصوص فرصة لهذه الملاحظات. وعلى الرغم من القرب الجغرافي بين كلا الدولتين الواقعتين في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ومن التشابه النسبي في التكوين السكاني الحديث لها بغلبة الطابع الأوروبي الإنجليزي عليها منذ وصلها البحارة العسكريون البريطانيون في القرن الثامن عشر الميلادي، إلا أنه كانت هناك فروق نوعية في طبيعة هذا الاستقرار، ففي حين كان يغلب على أستراليا السكان المحكومين قضائياً والمبعدين عن بريطانيا، كان سكان نيوزيلندا من الإنجليز الأحرار الذين كانوا يبحثون عن أرض جديدة وثرية يمكنها أن تحقق الأحلام بالثراء. وفي حين كان السكان الأصليون الأستراليون الأبأوريجينال ينتمون إلى عدد كبير من المجموعات اللغوية، فقد كان سكان نيوزيلندا الأصليون المعروفون بالماوري Māori ينتمون إلى عرقية واحدة تقريباً تنتمي إلى مجموعة لغوية واحدة وهي البولينيزيا الشرقية Eastern Polynesia التي تتقاطع مع ثقافات جزر المحيط الهادي كجزر سليمان وهاواي وتاهيتي وفيجي. وتتعدد الفروق بين الأبأوريجينال والماوري في خلفيتهم الثقافية واللغوية وفي نظامهم الاجتماعي والاقتصادي، ففي حين الأبأوريجينال كانوا يعتمدون الصيد والالتقاط داخل حدود القارة كوسيلة اقتصادية في جمع الغذاء، كان الماوري يزرعون ويتاجرون عبر البحار وخارج الجزيرة الشمالية لنيوزيلندا الحالية. وقد ساعد هذا الفرق على أن يفرض الماوري ثقافتهم وشروطهم على الرجل الأبيض عندما بدأ نزوله على اليابس ودخل في حروب طويلة معهم ثم وقعوا على اتفاقية مهمة عام 1840 عرفت باتفاقية وايتانغي Treaty of Waitangi والتي تضمن للماوري المساواة مع الإنجليز في التعامل وفي امتلاك الأراضي، ولكنها اتفاقية حملت الجور مع الفروق فيما وقّع عليه الماورويون بلغتهم وما كان عليه النص الإنجليزي، وأدت إلى سلب لأراضيهم الخصبة ومواقعهم الثرية وتهميشهم إلى نهاية القرن التاسع عشر عندما أخذت الحكومة النيوزيلندية في التعهد بعدد من التصحيحات وإصدار عدد من القوانين التي أنصفت عناصر كثيرة في المجتمع النيوزيلندي وعلى رأسهم الماوري والنساء. فكانت نيوزيلندا أول دولة (ضمن التاج البريطاني) تعطي النساء حق التصويت في الانتخابات الرئاسية عام 1893. وفي نفس العام نجحت إليزابيت ييتس Elizabeth Yates لتنتخب عمدة مدينة Onehunga حول أوكلاند. بينما وصلت المرأة الماورية إلى مجلس النواب لأول مرة عام 1949. هذه التطورات السياسية في المجتمع النيوزيلندي انعكس على الماوري وعلاقتهم بالمستعمرين الأوائل، فتمت مراجعة اتفاقية وايتانغي في القرن العشرين وتشكل حزب ماوري معارض تبنى متابعة المطالبات وتنفيذ بنود الاتفاقية للمساواة في الوظائف والحقوق والتملك إلخ. وقد نهجت نيوزيلاندا في بداية تأسيسها وبحثها عن هوية إلى أن تقدم نفسها كمجتمع مثالي ضمن المنظومة البريطانية تتسم بالمساواة والعدالة، وقد عبر عنها الكاتب البريطاني: إدوارد جيبون وايكفيلد Wakefield 1796-1862 الذي دعا لأن يكون نظامها الاقتصادي مبنيا على العمالة الحرة بخلاف نظام الاسترقاق المستخدم في المستعمرات البريطانية أو استخدام المحكومين في أستراليا والذي اعتبره غير عادل. وكانت رؤيته تقوم على أن تصبح نيوزيلندا دولة نموذجية تطبق معايير التنوير والعدالة، وقد تم تبني الكثير من هذه الرؤية في نهاية القرن التاسع عشر. ويلاحظ أي زائر لنيوزيلندا الأثر الثقافي الواضح للماوري على اللغة والمكان، فكثير من الألفاظ الماورية تجدها في اللغة الإنجليزية المحلية مثل جملة التحية (كياورو) أو الرجل الأبيض الذي يعرف ب (باكيها Pakiha) وغيرها. نجح الماوريون في المحافظة على لغتهم بجعلها اللغة الثانية في الدولة، لها مدارسها وجامعاتها وقناتها التلفزيونية أيضاً، كما أنهم دخلوا التعليم بقوة وأقاموا في المدن الجديدة وأنشأوا صناعات توازي وتنافس صناعات الرجل الأبيض. وقد كانت لنا فرصة زيارة إحدى مصانع الألبان الماورية في تاوبو حيث استقبلنا رئيس مجلس إدارتها وزوجته وعمالها بعرض تقليدي يدعى الهاكا شاركنا فيه، وسوف أفصل فيه الأسبوع القادم.