أحد الروافد الأساسية في تشكيل الحضارة الغربية الحديثة إن لم يكن الأول هو ذلك الرافد الحضاري العربي الأندلسي الذي كان الموصل بل القاعدة الحضارية لما جاء بعده هل كان الغرب تبسيطياً ساذجاً في فهم حقائق المنطقة؟ وهل غاب عنه أن الأديان السماوية ظهرت في هذه المنطقة تباعاً واختتمت بالإسلام؟ كما أن المنطقة هي مهد المدنيات والحضارات القديمة المنفتحة منذ أول الزمن على القارات بشكل عام، وليست اللغة العربية واحدة من اللغات الحية فقط، بل هي اللغة الأم والأكثر شمولية وتجذراً بين اللغات السامية، وقد كانت لفترة طويلة لغة العالم الأكثر تقدماً وانتشاراً؟ صحيح أن العرب ليسوا وحدهم صناع حضارات الأمم في العصور القديمة، ولكن مما لا شك فيه أنه إلى علمائهم وقادتهم ومجتمعاتهم يعود قسم كبير من الفضل في نقل البشرية من عصور الظلام إلى عصور العلم والمعرفة والإدارة من الحكم، وذلك من قبل العصر الوسيط الغربي الذي من أحشائه خرج كنقيض العالم الذي نعيش فيه والمسمى منذ زمن عصر الأنوار. وهنا لا يدعو عاقل في يومنا هذا إلى عبادة الماضي العربي الإسلامي أو غيره، ولكن ينبغي أيضاً أن لا نستسلم نحن العرب لا من قريب ولا من بعيد للنظريات الجاهلة أو المغرضة التي تصورنا نحن العرب أننا كنا دائماً ولا نزال، وهذا هو الافتراء بعينه، خارج التيار الأساسي في صنع حضارة الإنسان الغربي المعاصر. واقع الأمر أن أحد الروافد الأساسية في تشكيل الحضارة الغربية الحديثة إن لم يكن الأول هو ذلك الرافد الحضاري العربي الأندلسي الذي كان الموصل بل القاعدة الحضارية لما جاء بعده. ولا ضرورة للذهاب إلى ما قبل العصر العربي الأندلسي لفهم العلاقة بين الحضارة العربية والحضارة الغربية المعاصرة إذ يكفي استحضار الوجود العربي في الأندلس وتجلياته الثقافية والسياسية والحضارية حتى ينكشف الأثر العربي الواضح في أبرز ما حققه الغرب في تلك الفترة من نقلة. لم تكن الأندلس العربية حضارياً بنت الغرب بقدر ما كانت الحضارة الغربية الأوروبية بنت الأندلس العربية. وإذا صح أن الحضارة الغربية الحديثة ولدت في أوروبا تلك الفترة وهو ما تؤكده أكثرية القراءات التاريخية فإن الحضارة العربية الأندلسية هي إلى حد ما موصلة الإنسانية خصوصاً في أوروبا إلى كل ما جاء بعدها. تكاد تكون هذه الحقيقة المشرفة للطرفين العربي الإسلامي والغربي الأندلسي غير مكرسة عند الكثير من الأوروبيين وخصوصاً الأسبان، ولكن هل وصلت هذه الواقعة إلى الإنسان العربي المعاصر، ولا سيما المثقف انه مع الأسف لا يزال الكثير من المثقفين العرب غير واعٍ على هذا الفضل الحقيقي لأجداده على الثقافة الأوروبية بل العالمية ولعل بعضنا لسبب أو آخر يفضل أن لا يسلم لوطنه وتراثه بهذا الفضل، فالتغريب ما يزال أروج عند الكثيرين من مثقفينا من التشريق، إما عن إعجاب غير مشروط بثقافة الأغيار من الغربيين أو تخوف من الوقوع في زلة الذاتية الوطنية أو القومية المبالغ فيها. وللتذكير فان التسوية التاريخية بين التغريب والتشريق التي أنتجتها العروبة اللبنانية هي التي حققت الاستقلال الأول في المنطقة. صحيح أن التعددية اللبنانية التي يتحدث عنها الكثيرون حالة تكاد تكون فوضوية، وأنها ظاهرة مرشحة في النهاية لأن تتحول إلى حالة عبثية ومدمرة للذات الوطنية الواحدة. ولكن هناك من يقول إن هذه التعددية تضبطها ضوابط من صميم ثقافة الشعب اللبناني السياسي القادر على ضبط هذه التعددية ومنعها من أن تتحول إلى قوى متناقضة يصادم بعضها البعض الآخر. أهم من الانسياق السطحي السريع إلى التشاؤم أو التفاؤل بل ربما كان الأكثر ضرورة هو جولة داخل مكونات المجتمع السياسي اللبناني ورصد المفاهيم واللغة السائدة عند أطرافه، فإذا كانت النظرة المبسطة إلى الحياة السياسية اللبنانية واصطفافاتها، توحي بالتشاؤم، فإنه في المقابل هناك تساؤل: هل هذا صحيح إلى الدرجة التي يتصورها البعض أم أن الواقع اللبناني يبقى أفضل من ذلك؟ لقد ولد لبنان الحالي رسمياً بقرار من الجنرال الفرنسي غورو والظاهرة الأبرز فيه هي التعددية، ولكن السؤال إلى أي درجة هذه التعددية رافقها نمو وطني جامع للبنانيين وإلى أي درجة ظلت مجرد أغنية تذكر اللبنانيين دائماً أنهم كانوا وما زالوا أفراداً وجماعات أكثر مما هم أبناء وطن واحد فمنذ ما قبل إنشاء لبنان الكبير بالشكل الذي هو عليه اليوم والحديث عن مكوناته، يجري بتسمية مناطق جغرافية وتاريخية مختلفة، فهناك أولاً جبل لبنان كما نعرفه الآن، وهناك مدن الساحل أي بيروت وطرابلس وصيدا ثم الملحقات وهي المناطق الثلاث التي نسميها الآن عكار والبقاع والجنوب، وليس إلا مع مجيء الجنرال الفرنسي غورو إلى هنا بعيد الحرب العالمية الأولى حتى أصبحت كل هذه المناطق التي يتشكل منها الآن جزء من دولة هي دولة لبنان الكبير كما سمي في البدء أو لبنان الوطن والدولة كما يعرفه الآن البعيد والقريب. حتى عشية الاستقلال في العام 1943 بقيت الهوية اللبنانية الجامعة غير مسلم بها بشكل كامل عند الكثير من اللبنانيين وهكذا يمكننا القول إن لبنان لم يولد حقيقة عند الكثرة من أبنائه إلا بعد معركة الاستقلال المظفرة ضد الانتداب الفرنسي التي لم تعطه الذاتية الوطنية الرسمية والشعبية فحسب، بل أعطته أيضاً الدور داخل المحيط العربي وفي العالم. ولعله ما من استقلال عن أجنبي أعطى شعباً هوية كما أعطت معركة الاستقلال عن فرنسالبنان الحالي هويته الجامعة لأبنائه داخل وطنه والواصلة بينه وبين إخوته العرب بالتوازي مع ظاهرة القومية العربية كقوة دافعة للمسلم اللبناني أطلت ظاهرة المسيحية الشرقية كهوية ملازمة للمسيحي في هذه المنطقة وخصوصياته وتطلعاته وفهمه للغير وكيفية التعامل معه سواء كان مسيحياً أو مسلماً. في سورية ولبنان، ومصر والمغرب العربي سادت مقولة: الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وجاء هذا النداء واضحاً قاطعاً يخاطب ضمير كل إنسان حر في العالم وليس شعوب دول الاستعمار الغربي وحدها. لقد عاش العرب المسلمون طويلاً معتزين بل مطروبين بالمقولة الكريمة "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، ولكن هل نحن دائماً على مستوى الدور الكبير المتاح لنا؟ هل فكرنا السياسي العربي تراجع عما كان لا سمح الله. وألا يكفي ما يبذله بعض الغربيين من جهود للتقليل من شأننا في نظر أنفسنا والعالم لنتبرع لهم فوق ما يفعلون بعدم إظهار إيجابيات ثقافتنا في الحاضر وحتى في الماضي!