في العشرين من تموز يوليو 2014، احتفل القبارصة الأتراك بالذكرى الأربعين ليوم الحرية والسلام، بحضور رسمي وشعبي كبير. وقد تم بهذه المناسبة تقديم مجموعة عروض وطنية، أبرزها عرض عسكري مطوّل، استغرق معظم وقت الاحتفال. ولقد بدأ جلياً أن ثمة رسالة سياسية ذات مغزى تقف خلف هذا العرض، الذي جلب إليه عدد كبير ومتنوّع من الأسلحة، سيما البرية منها. وكان بعضها حديثاً، وينتمي إلى أجيال جديدة. المطلوب من المجتمع الدولي التعامل مع القضايا العالمية بمنظور لا منظورين. وإن من دواعي الانصاف فك الحصار المفروض على القبارصة الأتراك، الذي هو في الأصل غير قانوني وغير شرعي. إن هذا الحصار قد أثبت أنه لم يغير شيئاً في معادلات السياسة والأمن. ولم يتضرر منه سوى الإنسان العادي وقياساً بما لحظته قبل ثمانية أعوام، في احتفال مماثل، فقد حدث تطوّر ملحوظ، في الكم والنوع، على صعيد القدرات العسكرية للقبارصة الأتراك، الأمر الذي يجعل من قوتهم الذاتية عنصراً له وزنه في الحسابات السياسية والأمنية القائمة. وفي الأصل، فإن القوات التركية تمثل، منذ العام 1974، القوة الأمنية الأساسية في شمال قبرص. وفي خطابه الذي ألقاه في الشطر التركي من نيقوسيا، في احتفالية العشرين من تموز، شدد الرئيس القبرصي التركي، درويش إيروغلو، على ضرورة استئناف محادثات السلام، والبناء على ما تم التوصل إليه في الجولات السابقة، وعدم العودة إلى أمور سبق التوافق بشأنها، لأن في ذلك إضاعة للوقت لا طائل منها. وقبل يوم على ذلك، كان وزير خارجية جمهورية قبرص التركية، أوزديل نامي، قد تحدث أمام وفود إعلامية أجنبية حول مسار المباحثات الخاصة بإعادة توحيد شطري الجزيرة، وأوضح بأن هناك قضايا عالقة، مثل مستقبل تقاسم السلطة بين شطري الجزيرة في إطار فيدرالي، سيما طريقة انتخاب الرئيس القبرصي. وأوضح نامي بأن الجانب القبرصي التركي قدم عدة خيارات قانونية بهذا الخصوص، إلا أن الطرف الآخر مازال عند مواقفه، التي لا تعد عادلة أو متوازنة. وما يُمكن قوله الآن، بعد أربعين عاماً على عملية الحرية والسلام، وثلاثة عقود على إنشاء الجمهورية التركية لشمال قبرص، هو أن القبارصة الأتراك قد تمكنوا من تجاوز الكثير من الصعاب، وشيدوا بنية تحتية عامة في مناطقهم. واعتماداً على مشاهداتي الشخصية المباشرة، يُمكنني القول بأن هناك تطوّراً ملحوظاً قد حدث على صعيد الحياة العامة، في الكثير من المجالات. فقد فز نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في جمهورية قبرص التركية من 11.8 ألف دولار عام 2006 إلى 15.7 ألف دولار في تقديرات العام 2014. وقريباً، سوف يكتمل مشروع أنبوب المياه العملاق من تركيا إلى شمال قبرص، الذي يُقدر له إحداث نقله نوعية في مشاريع التنمية، وخاصة الزراعية منها. سوف يرتقي هذا المشروع بفرص الاستثمار الزراعي، الذي مازال محدوداً، رغم توفر الأراضي الخصبة، وتنوّع إمكانات الزراعة، وخاصة على مستوى الحمضيات والزيتون. وفي الوقت الراهن، لا يوفر قطاع الزراعة سوى 5.6% من الناتج القومي الإجمالي، مقابل 69.7% لقطاع الخدمات، و8.6% للصناعة، و5.3% للإنشاءات. من جهة أخرى، يُمكن ملاحظة إن إحدى التطوّرات الأكثر مغزى في مسار المسألة القبرصية قد تجلت في اكتشافات النفط والغاز. وهذه مسالة جوهرية، بمعيار الحسابات السياسية والاقتصادية على حد سواء، وخاصة لجهة شعور القبارصة الأتراك بأن نظرائهم في الشطر اليوناني من الجزيرة يتجهون لاستغلال هذه الثروة من جانب واحد، وحرمانهم منها. وقد عقد الشطر اليوناني بالفعل اتفاقات للتنقيب عن النفط والغاز في حقل ليفيتان، الذي يقع إلى الجنوب الشرقي من العاصمة نيقوسيا. وحسب تقدير لمركز المسح الجيولوجي الأميركي، يحتوي حقل ليفيتان على 1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج، و122 مليار قدم مكعبة من الغاز الطبيعي. الخلفيات التاريخية: وكثيرا ما يسأل الناس عن خلفيات الأزمة القبرصية، وكيف وصلت إلى ما هي عليه اليوم؟ لتوضيح ذلك، يُمكن ملاحظة أن دستور قبرص، الذي تم تطبيقه في العام 1960، بعد الاستقلال عن بريطانيا، قد قسم المناصب السياسية بين المجموعتين القبرصيتين اليونانية والتركية. بيد أن زعماء القبارصة اليونانيين انقلبوا في كانون الأول ديسمبر 1963 على دستور العام 1960، واتجهوا للتعامل مع القبارصة الأتراك باعتبارهم أقلية عرقية ودينية، لا بصفتهم شركاء في الوطن. وبعد ذلك، أصبح القبارصة الأتراك ضحية لسلسلة متصلة من العنف الدموي. وفي انقلاب 15 تموز يوليو 1974، حدث انقلاب عسكري، نفذته، بالتعاون مع ضباط يونانيين، عناصر قبرصية يونانية تدعو لاندماج قبرص مع اليونان. وقد تمثل أحد التداعيات السريعة لهذا الانقلاب في انطلاق موجة عاتية من أعمال العنف ضد المجموعة القبرصية التركية. وحينها قامت تركيا، باعتبارها إحدى الدول الضامنة لأمن قبرص، بالتدخل العسكري للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية بحق القبارصة الأتراك، الذين تركزوا في الأخير في الجزء الشمالي من الجزيرة. وقد حدث ذلك في 20 تموز يوليو من ذلك العام. ويحتفل القبارصة الأتراك سنوياً بهذا اليوم، تحت شعار يوم الحرية والسلام. وقد صادفت هذه السنة الذكرى الأربعين له. وفي سياق المسار التاريخي ذاته، أعلنت القيادات القبرصية التركية، في 15 تشرين الثاني نوفمبر 1983، بعد استفتاء عام لسكان الشطر الشمالي، عن قيام "الجمهورية التركية لشمال قبرص"، التي تسمى أيضاً قبرص الشمالية. وبعد حوالي عشرين عاماً، وتحديداً في شباط فبراير من العام 2003، اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار الرقم (1475)، الذي منح تأييده الكامل "للخطة المتوازنة بقبرص"، التي طرحها الأمين العام للأمم المتحدة حينها، كوفي عنان. وقُدم الاتفاق الأساسي المقترح في التسوية الشاملة للمشكلة القبرصية إلى استفتاءين متزامنين، في الجنوب والشمال، وذلك في 24 نيسان أبريل من العام 2004. وقد رفض القبارصة اليونانيون خطة الأمين العام للأمم المتحدة، بمعدل ثلاثة أصوات إلى صوت واحد، في حين وافق عليها القبارصة الأتراك بمتوسط اثنين إلى واحد. وقد انضم الشطر القبرصي اليوناني إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بعد أيام فقط من رفضه للخطة الدولية. وحسب إعلان هلسنكي، الصادر في كانون الأول ديسمبر 1999، فإن قبرص تدخل إلى الاتحاد الأوروبي، حتى وإن لم تصل مشكلتها إلى حل، شريطة ألا يكون الجانب القبرصي اليوناني مسؤولاً عن فشل المفاوضات. بيد أن الأوروبيين لم يتقيدوا بهذا الإعلان. الحصار والعقوبات: إن القبارصة الأتراك قد تجاوبوا مع الإرادة الأممية، واستجابوا لرغبة المجتمع الدولي في إنهاء الأزمة وإعادة توحيد الجزيرة، ولذا صوتوا بنعم لخطة الأممالمتحدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن العالم لم ينصفهم، ولم تفِ أوروبا بوعودها بإنهاء الحصار المفروض عليهم، إن هم صوتوا للخطة الأممية. إن القبارصة الأتراك يواجهون، منذ أربعين عاماً، حصاراً متعدد الطبقات، وهو مخالف للقانون الدولي على نحو تام وصريح، لأنه يُمثل نوعاً من العقاب الجماعي ضد الشعوب. وكانت سياسة الحصار والعقوبات قد تعززت هيكلياً منذ تشرين الثاني نوفمبر 1983. وفي حقيقة الأمر، فإن قراري مجلس الأمن الدولي (542) و(550)، الصادرين عام 1983، قد ولدا بفعل ضغوط اليمين المحافظ في الغرب، الذي كان حينها في أوج انتعاشه. ومع مضي الوقت، أعطيّ هذان القراران ما يفوق مضمونهما الحقيقي. وتحركت أطراف بعينها بهدف تشديد الحصار على القبارصة الأتراك. وإضافة لتناقض سياسة العقاب الجماعي ضد الشعوب مع القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان، فإنه يُمكن القول من المنظور التقني البحت إن متغيراً كبيراً قد طرأ على روح القرارات الدولية، الخاصة بالقضية القبرصية، وذلك اعتباراً من العام 2004، عندما وافق القبارصة الأتراك على خطة الأممالمتحدة لإعادة توحيد الجزيرة. ويتعين، من وجهة القانون الدولي، الاعتراف بضرورة تعديل القواعد الجزائية إذا تغيرت حيثيات الظروف التي أولدتها. وهذا تحديداً ما نصت عليه اتفاقية فيينا لعام 1969 في مادتها رقم (62). إن المطلوب من المجتمع الدولي التعامل مع القضايا العالمية بمنظور لا منظورين. وإن من دواعي الانصاف فك الحصار المفروض على القبارصة الأتراك، الذي هو في الأصل غير قانوني وغير شرعي. إن هذا الحصار قد أثبت أنه لم يغير شيئاً في معادلات السياسة والأمن. ولم يتضرر منه سوى الإنسان العادي، الذي يشعر الآن بأن العالم يعاقبه على تمسكه بحقوقه الوطنية. إن المطلوب هو إنهاء هذا الحصار وتجاوز آثاره. إن على دول المنطقة مد جسور التعاون مع القبارصة الأتراك، والانفتاح عليهم اقتصادياً وثقافياً، والتأكيد الدائم على دعم حقوقهم المشروعة.