عام 410 للميلاد سقطت مدينة روما على يد قبائل القوط الهمجية المنحدرة من غرب أوروبا، وسقوط روما آنذاك غيّر خارطة العالم برمته لقرون عديدة، فقد كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية العظمى لهيبتها ومنعتها لم يدخلها محتل لمدة 800 عام، ولأن كل الطرق تؤدي إلى روما.. سموها أم الدنيا.. يحف هذا كله جيوش عظيمة مدربة.. قادرة على حماية أرجاء الإمبراطورية الشاسعة آنذاك ولكن القانون الكوني في الصعود والانحدار لا يغفل أحدا، وتصدعت الدولة الرومانية وتفككت أوصالها، بدأت تفقد قوتها ونفوذها، كمركز علمي وحضري وفلسفي ملهم للعالم بأسره، حتى غدت مهلهلة ومستباحة للقبائل الهمجية في باقي أوروبا. وقبائل القوط في بداية وصولهم روما لم يكونوا غزاة بل أعدادا كبيرة من شتات جائع لايمتلك أدنى مقومات المدنية، فاستغلت الارستقراطية الرومانية آنذاك جوعهم وحاجتهم وأخذت تشتري منهم أطفالهم كعبيد مقابل.. لحم الكلاب.. ما أدى إلى تمردهم وحصار روما من قبل زعماء تلك القبائل، وبعد عامين من الحصار استطاعوا دخول روما ودمروها، وبسقوط روما بدأت عصور الظلام في أوروبا.. حيث ثالوث الجوع والطاعون ومحاكم التفتيش. الامبراطورية الرومانية كانت وريثة للحضارة الإغريقية حيث للحضارة هناك ألف لسان ومرآة، من فلسفة وفنون وآداب وعمران، وإلى اليوم ورغم آلاف السنين ما برحت آثارهم خالدة في معظم مدنهم القديمة سواء كمكوّن يخص الإنسان من فلسفة ورياضيات ومسرح ورياضة أو متانة عمران وبنيان ما برحت شواهده قائمة إلى اليوم، وأبسط مثال أنظمة الري الرومانية في بيزنطة (أسطنبول) أو مدن جنوبأسبانيا في الأندلس. ولكن حينما ضعفت الامبراطورية واحتلها القوط ولم يكونوا يمتلكون زادا فكريا أو ثقافيا أو فلسفيا يخولهم أن يكونوا امتدادا للرومان، تصدعت روما وتهلهلت، وهجرت الشوارع، وجفت سواقي الماء والنوافير، وأخذ الغزاة يسرقون حجارة مسرح الكولزيوم العظيم لبناء بيوت كئيبة خالية من الذوق وباتت النتيجة مرعبة، ودخلت أوروبا العصور المظلمة أسيرة للجهل ومحاكم التفتيش، في قلاع الاقطاعية الموحشة المظلمة.. قبل أن ينبلج بعد هذا بقرون صبح التنوير على أراضيها بقيادة السيد العقل الذي أسس مملكة الانسان على الأرض. وهذا ما يحدث عند غياب المكوّن الحضاري والقيم الفلسفية.. النشاط الثقافي والفلسفي هو الذي يسمو بروح الشعوب ويأخذها بعيدا عن زمن البربرية البدائية، ويسهم في تهذيب الارواح والرقي بالسلوك، ورهافة الإحساس، والاهتمام بالتفاصيل الجمالية، والتحليق في سماوات الإبداع، لذا تحرص شعوب الأرض على التعاطي مع المنتج الثقافي والفني بكثير من التقدير والإجلال، لأنه هو الصنو الأساسي للتمدن والحضارة. واليوم من يتابع جماعات داعش بأعلامها السوداء وبيارقها المهلهلة، وأفرادها الذين يشبهون سكان الكهوف وتحريمها للفنون والفلسفة وخرائطها العجيبة التي تمرر فيها حلما ساذجا منبتّا عن واقعه تقتحم المراكز الحضرية في العالم القديم.. حيث حضارة سومر وبابل.. وقصور بُصرى والشام وأقدم استقرار مدني في العالم.. سيجد شبها كبيرا بين تلك الهجمات.. وسقوط روما.. وبوجودهم نعلم أن هناك مستقبلا معتما ينتظر المنطقة. أيدلوجية هيمنت على المنطقة طوال الثلاثين عاما الماضية.. وهذه مخرجاتها جماعات متوحشة مفرغة من المكون الحضاري. المكون النهضوي التنويري في العالم العربي هش وضعيف، وما برح في مرحلة التبرعم، فهو محاصر بإرث الاستبداد للعالم القديم، حيث النظم الدكتاتورية المتسلطة ذات الواجهات المنسوجة بالخرافة. هجوم جماعات داعش كالجراد الذي من الممكن أن يدخل المنطقة في عصور مظلمة لسنوات طوال قادمة.