كان الشعراء الشعبيون يتمنون أن يحسنوا الإبداع الشعري بالفصحى، ويرون أن الإبداع باللغة أو اللهجة الدارجة مركبة اضطرار. ويعود ذلك إلى أن نسق الفصحى يوشي نصوصها بلغة القرآن الكريم التي يحتج بها ويبلغ تأثيرها مظان القلوب. الشعر الشعبي إبداعٌ وفنٌ .. والرديء منه يلتقي مع الرديء من شعر الفصحى ورغم الاحتفاء بقصائد الوعظ الديني والأخلاقي وقصائد المعاناة المريرة في الشعر الشعبي، لمحتواها المؤلم أو مضمونها الأخلاقي إلا أنها لاتملك الإعجاب بقصيدة فصحى ضعيفة.وكل ما وصل إلينا من قصائد الشعر الشعبي المبدعة في زمن غياب التدوين إنما هو بمثابة شعر المعلقات التي ساهمت جودتها في حفظها وتناقلها. إذ الحدث والجودة هما العاملان الأساس في حفظ الموروث الأدبي. ورغم أن قصرا في نظر بعض الكتاب إلى الأدب الشعبي بأنه أدب عوام إلا أن أصحاب الشمولية في الكتابة الانسانية لا يجدون غضاضة في اعتباره إبداعا يرقى إلى الأدبية، انطلاقا من محتواه المعرفي، وأنه من أشكال التعبير، وأنه ينقل الحس الاجتماعي في الصور المتبادلة المؤثرة في المتلقي المستندة إلى الأمثال الشعبية والجمل والمفردات المستخدمة للتأثير والإقناع ، المستجيبة للذائقة الاجتماعية المتسًمة، بالفنية الابداعية. شعر الفصحى فقد بريقه والشعر الشعبي لم يفقد متلقيه وبين يدي الاعمال الكاملة للاديبة التونسية فضيلة الشابي، الجزء الخاص بشعرها العامي. وهي شاعرة وأديبة معروفة ترجمت بعض أعمالها للغات أجنبية. وفي مقدمة الكتاب التي بقلم الجليدي العويني تبرير لمغادرة الشاعرة رياض الفصحى بعد أن أبدعت فيها وأصدرت دواوين رفيعة المستوى، واذا بها تعانق الشعر العامي أو شعر اللهجة كما يسميه، وأن أقرب مبرراته لذلك هو الحنين للقرية وأهازيجها مما اختزنته ذاكرة الشاعرة من أيام الصبا، وقد أورد أمثلة من ذلك منها قصيدة عن الشح منها: حيح حيح و حيح حيح ها الراجل قداش شحيح ساقيني زعتر و شيح وموش حنيٍّن مغطيني بلحاف الريح تهمُّه كان روحه أناني عليّ ثْقِلْ حمله أنا نهز وهو يطيح ما فهم إحساسي ولا الفكرة اللي تضوّي راسي قلبي يا أهلي و ناسي ولى في إيده كرموس شريح لكنه ناسي إني حرة ما نحمل كتمان أنفاسي. ***** حيح حيح و حيح حيح هالراجل ماهو شي صريح صوته في وذني كأنه فحيح كلامة كالليل على فجره ماكان فصيح نجوم الليل في صدري تتباعد تطفي و تميح و حيح حيح حيح حيح هالأعمى قداش قبيح والقلب كيعمى ما ينفع فيه طب و تشريح. والمشكلة في الشعر الشعبي أنه ابن بيئته ولبيئته، وقل أن يروق لبيئات أخرى.أما أنه شعر عامي نسبة للعوام فذلك مالا يقبل، وذلك لأسباب أن كثيراً من مبدعيه لايمكن أن يطلق عليهم عوام لمكانتهم الاجتماعية و ثقافتهم الواسعة وإبداعهم في الفصحى والشعبي.وأن إبداع هذا الشعر لا يحدث جزافا وإنما هناك ضوابط فنية يدركها الشعراء، ولغة شعرية لايجيدها العوام، وليست من اللغة الدارجة، بل مثلما يختار شاعر الفصحى مفرداته ويخلع صوره ومعاييره الشعرية على إبداعه يسلك الشاعر الشعبي هذا النهج.. فالشعر الشعبي يقتفي أثر شعر الفصحى في كل معاييره ماعدا الالتزام بقواعد اللغة العربية (النحو). أما المشكلة التي تواجه بعض نقاد الشعر الشعبي فتعود إلى عدم فهمه أو تذوقه، والاعتداد بصلتهم بالفصحى مهما كانت ضئيلة.والعقل الاّ يدلي المرء برأي حول مالا يعرف حقائقه ولا يحسن تذوق نسيجه.واليوم يعيش الجيل الجديد بعيداً عن منتديات الشعر الشعبي الأصيل ويتلقى شعراً كالذي لم تحفظه الذاكرة من شعر السابقين لضعفه. إن الشاعرة فضيلة الشابي عادت إلى الشعر الشعبي ربما زهداً في شعر الفصحى الذي لم يعد لأيامه الذهبية،أو رغبة في مخاطبة الشعب الذي يفهم ما تقول، يتلقاه بحاسته الشعبية ولغته التي يدركها ويتحدث بها الجميع من نخب وعوام، وربما هو احتجاج على النخبة التي لم تعد تصغي للشعر بل تعده من لغو الكلام حيث تفوقت لغة الأرقام والخدع والغدر على اللغة الشاعرة..إن عرش الشعر الذي ظل رفيعا وبراقا منذ زمن قديم يفقد بريقه بل هو في حالة يرثى لها، فلا قصائد يحتفي بها الملوك والرؤساء ولا مهرجانات شعرية تطرح مشاعر الأمة ويتنافس فيها المبدعون... إن مملكة الشعر تعاني مما يعاني منه الوطن العربي الذي سلب رمزه تحت مسمى الشرق الاوسط. وقد عادت الشابي الى الشعر الشعبي الذي لم يفقد متلقيه ولا مكانته بل ولم يعد خطابه سهلاً على النخبة إدراك رموزه و معانيه. يوجه الكاتب في تقديمه للشابي نقدا لاذعا بأن شاعر الفصحى لن يستطيع العودة للشعبي:" إن فضيلة الشابي المثقلة بتجربتها الفصيحة بعمق بحثها وانضباط سلوكها الشعري لا تستطيع النسج على المنوال ولا صياغة الكاريكاتور والبسيط المباشر" ويضيف:" فما أخرجته فضيلة الشابي نصوص لهجة حافلة بالفصحىً. و إلى نقاد الشعر الشعبي أطرح القصيدة التالية لبديوي الوقداني للنظر بمدى فصاحتها أو إغراقها في الشعبية: آخر زمان و كل من عاش خبَّر و بغيت اقول الميت أرجى من الحي ورد حباله في زمانه و صدَّر إن كان هو ظميان والاّ روى ري ماعاش في هذا الزمان المغيَّر و احواله اللي ما عرفنا لها زي دنيا عجوز و غيَّها ما تغيَّر تضحك مع الجاهل و تعجب هل الغي جار الزمان وحد نابه و كشّر واسعار طارت والمخاليق في لي وقام الامام وسل سيفه و كبّر واهتز من صنعا إلى باب بُمْبَي والشمس دارت وجهها و اقتوى الحر ما عاد يمنع من لظى حرها الفي والنار شبت والحطب ساع جمَّر واللي يدوس النار يصبر على الكي والنيل فاض و ظنتي يخرب البر وأهل البيوت الطارفة مالها ني والطير الاخضر صاحب الطير الأصفر وطيور ماتعرف لها وجيه و قفي عنوانها يخبرك عن كل مضمر شبّت و شابت و ابدلت عَوْد بصبي والنمر جنّب و الحصيني تنمَّر يحسب سباع الغاب من جملة الصي واقيّس ان الحب ما يشبع الذر وعلوم باتت ما بقى دونها شي و راعي النصيحة ضاع نصحه و عذّر قال اسمعوا لكن مايسمع الحي واللي حكم في سابق الحال عبّر تعبير يعقوب بن اسحاق يا ابني وريح العوالي قابلت ريح صرصر وحذف الجنادب بينهم شوف عيني والنمل جاله ريش و النسر عمّر وليا استمد الحبل لابد من طي والظلم ظُلْمة وان دخل دار دمّر ودنياك ما دامت لحاتم بن طي منها السلامة راس مالي و متجر واقول كنِّى لازم الشمس بيدي وان كان الأفعى نابها ما تكسَّر غصَّت و صار السم لا تسمع الدي وان كان عظم الداعية ما تجبَّر والاّ اظلمت ماعاد يبقى لها ضي الشعر الشعبي إبداع وفن ، والردئ منه يلتقي مع الردئ من شعر الفصحى. وقصيدة بديوي هذه رائعة و متجددة، ولا أزيد.