فرق كبير بين مستوى الطالب الفقير قديماً وحديثاً، فقد عرف عنه في الماضي الجد والاجتهاد، حيث نجد غالبية رجال العلم والأدب ممن حظيوا بمكانة مرموقة قد عانوا في طفولتهم وشبابهم من الحاجة والفقر، فكان أحدهم بعمر طفل وعقل رجل ناضج، يحمل هم نفسه وعائلته، وجلّ تفكيره كيف يرتقي بكيانه وأسرته للأفضل؟، وكيف يصل بهم لحياة العز والرفاهية مثل غيرهم من الأسر؟، يشجعه على ذلك والداه ومجتمعه بما يكنون له من التقدير والاحترام، نظير ما يبذله من جد واجتهاد وتميز، على الرغم من ما يمر به من ظروف معيشية صعبة، إلى جانب تجرعه مرارة الحرمان، وغيرته من نظيره ميسور الحال الذي يحصل على كل ما يتمناه، أما اليوم فقد اختلف الوضع وأصبح الفقر فقرين: حرمان مادي، ومستوى دراسي ينذر بمستقبل لا يبشر بخير!. مضرب مثل تتباين الآراء وتكاد تتفق على أن الطالب الفقير في الماضي كان مضرباً للمثل في الجد والتفوق عن باقي أقرانه من ميسوري الحال، لكن الحالة تغيرت في الوقت الراهن، ولم يعد هو المتفوق، ولعل تطور المناهج وأساليب ووسائل التدريس قلبت الموازين، وحرمت الفقير من سلاح المنافسة الذي كان يعتمد عليه لإثبات تميزه؛ اختبار نهاية العام، والذي ألغي واستبدل بالتقويم المستمر، إلى جانب غزو التقنية الحديثة للمجتمع، التي باتت جزءاً لا يتجزأ من المعرفة، وقد لا يمتلكها إلا ميسورو الحال من الطلاب. أدوات الترفيه وذكرت "د.وداد عبدالله ناصر شرعبي" -متخصصة في أصول التربية ومشرفة توجيه وارشاد الطالبات بتعليم الطائف- أنّ الطالب الفقير قديماً يحاول أن يوازي زميله المقتدر مادياً فلا يستطيع، من حيث القدرة المالية، فيستخدم قدراته الكامنة للتفوق عليه دراسياً، حيث كان الفقير لا يملك أدوات تلهيه عن التفرغ للتعلم والدراسة والتحضير، فقد لا يكون بمنزله تلفاز، أو هاتف، أو مذياع، ولا مجال له للذهاب للتسوق، أو اللعب، بل يكون محوره المنزل والأقران من جيرانه، وأدوات التعلم التي يمتلكها، وهي بسيطة، إلاّ أنها تحتوي منهاج الدراسة، فيغوص فيها ويستفيد من وقته بالدراسة، فيتميز عمن أضاعوا وقتهم باللعب والترفيه. وأضافت أنّ الوالدين قد يحثان الابن كي ينجح بحياته العلمية، ومن ثم يكون منتجاً ليخلّصهم مما هم فيه من حالة الفقر، لافتةً إلى أنّه لم يعد هناك ما يسمى بالفقر المدقع حالياً، ولم يعد حالة ثابته ومستمرة، بل إنّ الأحوال تتغير بين عشية وضحاها، فالطالب الفقير الآن يختلف عن الفقير سابقاً، فهو يمتلك كل أدوات الترفيه التي تضيع الوقت من ألعاب، وهاتف، وغيرها، والتلفاز أضحى متوفراً للجميع، ومتواجداً في كل غرف المنزل؛ إذاً فكل الوسائل التي كان يحلم بها توفرت، لكنها أثرت عليه سلباً. موازين التعليم وأوضحت "د.وداد" أنّ هناك سبباً مهماً يقف وراء تدني مستوى الطالب الفقير في الوقت الحالي، وهو محاولته مجاراة زميله الطالب الغني أو المقتدر بالبحث عن وسائل ترفع المستوى المعيشي، فيلجأ للعمل بساعات محددة يومياً أو الانشغال بتقديم المساعدة للأب بمصلحة تدر عليه دخلاً، لافتةً إلى أنّ موازين التعليم قد اختلت كلها، بدءًا بالمنهج وانتهاء بمحور التعليم -الطالب-، وتفاقمت عملية التراجع، لدرجة يحتاج معها الإصلاح لإيقاف العملية التعليمية وإعادة بنائها من جديد، فالأصل إعادة إحياء التعليم ومنظومته ببنيان سليم قوي، يواجه الظروف المتوقعة، ويعالج الحالة المناكفة لمسيرة التعليم، ونتائج التحصيل الدراسي لكافة مستويات الطلبة. وأشارت إلى أنّ الفقر يعتبر مشكلة لابد من علاجها؛ كونه أرضاً خصبة للجهل والتخلف، حيث إنّ الفقر لا يعتبر سمة أو حالة، بل هو ظرف اجتماعي يمر به الإنسان أيا كان الزمان والمكان والسلالة نتيجة ظروف ما، ولسبب أو لآخر فقد وجد الأعداء أنّ أفضل وسيلة لتجهيل الشعوب في الدول المستعمرة إبقاؤها على حالة الفقر؛ لأنّها أرضية عامة للجهل بشكل عام، فلا علاقة للفقر بالتقدم العلمي، بل هو أساس الجهل للمجتمعات بشكل عام. الغزو التقني ساهم في زيادة الفجوة بين الطالب الفقير والغني قلة الفرص ورأت "مريم موسى حسين" -معلمة بابتدائية ومتوسطة الداثري - أنّ سبب تفوق وتقدم الطالب الفقير قديماً يعود للأسرة، فهم يعطونه الثقة في نفسه وقدراته، لدرجة انّ بعض الأسر تنتظر ابنها أو ابنتها كل يوم ليعلمهم ما تعلمه في المدرسة، على عكس وقتنا الراهن، فهناك غياب للهدف وتخبط في تحديده، سواءً من الأسرة أو المدرسة، بجانب ضعف الهمة لدى الكثيرين على اختلاف الأوساط الاجتماعية، وما يجده الطالب من احباط، إلى جانب قلة الفرص الوظيفية في العصر الحالي. مناهج مطورة ولفتت "حسنة حمدي" -مرشدة طلابية بالابتدائية الأولى بصامطة- إلى تطور المناهج وما يتطلبه ذلك من مبالغ كبيرة لشراء ما يحتاجه الطالب لتوفير الأدوات والوسائل اللازمة، والضرورة الملحة لاستخدام التقنية الحديثة والأجهزة الذكية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التعليم، وهنا يستطيع الطالب الغني توفير هذه الأجهزة والأدوات المعينة له، في حين لا يستطيع الفقير ذلك، مشددةً على ضرورة دخول الطالب الفقير في برنامج تكافل ليحصل على مكافأة تعينه على توفير مستلزماته المدرسية، مقترحةً توفير أجهزة في المدرسة ليستعيرها الطالب. الواسطة والمناصب ونوّهت "زينة عبدالله العمري" -مشرفة تربوية بإدارة تعليم الرياض- بالفكرة السابقة التي تم غرسها في ذهن الطلاب "أنت فقير وتستطيع أن تتنافس مع أولاد الأغنياء بعلمك، وتصل للمناصب التي وصلوا إليها باجتهادك"، فيما تغير الواقع الحالي، حيث أنّ من كافح سيجد أنّ بعض المناصب قسمت سلفاً بين أولاد الذوات والمعارف، حتى إنّها أصبحت ورثاً عائلياً، وتغيرت الفكرة: "ليس للدراسة والتفوق أهمية، فمن يمتلك واسطة يصل لما يريد"، مشددةً على ضرورة إيجاد معايير دقيقة ثابتة وموضوعية في التوظيف وقبول الطلبة المتخرجين، وإلزام المسؤولين بها، لتحقيق العدل والإنصاف. الحد من المبالغة وبيّنت "شريفة شربيب" -مديرة الابتدائية الأولى برجال ألمع- أنّه في الماضي كان الكتاب المدرسي هو مصدر المعلومات ومقياس الاجتهاد للجميع، أما اليوم فتظهر فيه الفروقات حتى بين الإخوة أنفسهم؛ بسبب تغير مفهوم الاجتهاد ونظرتهم له، فالكثيرون يرون أنّ الاجتهاد لم يعد مصدراً لتحقيق الغنى المعيشي، وأنّ المال هو من يجلب المعلومة لا العكس، داعية إلى ضرورة توسيع مفاهيم الطلاب حول قيمة العلم، وتوجيه المدارس للحد من المبالغة في إبراز الشكليات بين الطلاب. تحمل المسؤولية واعتبرت "شمعة مذكور" -مديرة الثانوية الثانية بصامطة- أنّ الاعتماد على الطالب من صغره وتحميله المسؤولية في أشياء كثيرة يلعب دوراً كبيراً في اكتسابه القوة والصلابة، مع الجد والاجتهاد في سبيل تحسين وضعه، وهذا ما يفتقد في الوقت الحالي، مضيفةً: "الدافعية للتعلم ضعفت كثيراً لأسباب ذاتية لدى الطالب، وأسباب انشغال الأسر عن أبنائهم بملهيات كثيرة، إلى جانب أنّ ثقافة القراءة والاطلاع شبه منعدمة". أساليب تقليدية وقالت "سلوى العضيدان" -مدربة ومستشارة أسرية- أنّه من غير الصائب أن ينسب الاجتهاد والتفوق لطبقة اجتماعية دون أخرى، خصوصاً إن لم يكن الأمر مبنياً على احصائيات ودراسات علمية معتمدة، ففيه ظلم لطبقة وتمييز لاحداهما، معتبرةً أنّ تدني المستوى الدراسي -بغض النظر عن الجنس والطبقة والمستوى الاجتماعي- يعدّ مشكلة برزت بشكل كبير في السنوات الأخيرة؛ بسبب سيطرة الأجهزة الذكية بشكل غير مدروس على حياة هؤلاء الطلاب، في ظل غياب رقابة الوالدين، إلى جانب تقليدية الأساليب التعليمية المستخدمة، والتركيز على ملكات الحفظ والتلقين. وأضافت أنّ لغياب المحفز دوراً، سواءً كان معلماً أو والداً أو مربياً، فالطالب يحتاج للتحفيز المادي والمعنوي؛ لكي يظل متوهجاً بالتفوق، وفي الوقت الحالي نجد الكثيرين محبطين وعاجزين عن تحفيز أنفسهم، ناهيك عن القدرة على تحفيز الطلاب، إلى جانب انعدام الدافعية في نفس الطالب. إسعاد الوالدين واعتبر "حسين سلمان المالكي" -مشرف تربوي- أنّ تفوق الطلاب الفقراء لا يعني ذلك أنّ زملاءهم الآخرين من أصحاب الوضع المالي الجيد غير متفوقين، بل كان منهم الكثير متألقين ومبدعين، مبيّناً أنّ بروز الطلاب الفقراء في الماضي ينم عن تحمل المسؤولية، والحرص على تعويض الحرمان والصعوبات التي يواجهها الطلاب وأسرهم، حتى يكونوا سبباً في إسعاد والديهم، منوهاً بأنّ توسع دائرة الإحباط من أهم أسباب تبدل حال الطالب الفقير، حيث يرون أنّهم مهما اجتهدوا فإنّ مستقبلاً مجهولاً ينتظرهم، والغالب على ذلك المستقبل أنّه غير مفيد؛ بسبب قلة الوظائف، إلى جانب الفجوة الكبيرة بين الطلاب من أسر غنية والفقراء، فقديمًا رغم الفقر إلاّ أنّ الطلاب في مستوى متقارب معيشياً واجتماعياً، أما اليوم فالبون شاسع، والدرجات متباعدة. وأضاف أنّ من الأسباب أيضاً الإنفجار المعرفي الهائل والتقنية المتسارعة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي غزت العالم، فأضحى الطالب -فقيراً كان أو غنياً- مشغولاً بهذه الأمور؛ مما أثر بشكل سلبي وكبير جداً على مستوى الجميع، فقديماً لم يكن الطالب الفقير يجد شواغل تذهب بوقته وتنسيه دروسه، أما اليوم فأفقر الطلاب اجتماعياً يقتني أغلى الجوالات، حتى لو استدان ثمنه، إلى جانب إنشغال ولي الأمر بتدبير شؤون الأسرة ومتطلبات الحياة، مع الغلاء المتصاعد، إذ كل يوم تتوسع دائرة الاهتمامات، بينما كان قديماً لا يبرح بعيداً فهمه مزرعته وبيته، وإن ذهب للسوق للتبضع فما يلبث أن يعود لمنزله سريعاً. ضعف الإرشاد وبيّن "المالكي" أنّ الضعف الكبير الذي يعيشه الإرشاد الطلابي في بعض المدارس من الأسباب المهمة، فكثير من المرشدين يهتمون بالأمور الكتابية التقليدية، والبعض منهم لا يمتلك القدرة على التنقيب عن المواهب، ولا معرفة حالات الطلاب نفسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، معتبراً أنّ اختبارات "قياس" ساهمت بشكل كبير في إحباط الطلاب، فمن يبذل ويجتهد يأتي عليه "قياس" فيذره مجردًا من ذلك في طرفة عين، مشدداً على أنّ المدرسة يجب عليها أداء دورها الاجتماعي، فهي مؤسسة اجتماعية تخدم الجميع، وليست فقط تقدم العلوم والمعارف، وذلك من خلال تفعيل المناشط لخلق بيئة تعليمية تنافسية مريحة ومبهجة؛ مما يجعل الطالب ينظر لمدرسته على أنّها حاضنة وراعية لمهاراته. وأشار إلى أنّه مع الدقة العالية في اختيار المرشد الطلابي في المدارس وتفريغهم للعمل عن طريق لجان متخصصة وعلمية، بعد أن يحصل المرشد على دبلوم متخصص ومكثف في وسائل التعامل مع الطلاب بمختلف فئاتهم، إلى جانب تفعيل مجالس الآباء والأمهات، وإعطاء ولي الأمر دوراً في العناية بابنه ومتابعة مستواه، وإيجاد برامج تعليمية مقننة وبثها عبر وسائل التواصل مجاناً، يستفيد منها الطالب بغض النظر عن وضعه المادي. قد لا يتمكن الفقير من الحصول على الأجهزة ليستذكر دروسه استطاع المقتدر الحصول على معلومات أكثر بسبب التقنية