نستحضر مع حلول الذكرى التاسعة لمبايعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- السنوات القليلة لحكمه والعظيمة بمنجزاته لدينه ووطنه وشعبه؛ حتى باتت مضرب المثل إقليمياً وعالمياً على كافة الأصعدة، ومن ذلك توجهاته ومواقفه وقرارته في تعزيز الأمن الفكري على المستويين المحلي والدولي، وإعطاء صورة حقيقية للدين الإسلامي العظيم الذي يدعو إلى السلم والتسامح والاعتدال بين شعوب الأرض. والمجتمع السعودي مرّ بمراحل متطورة بعد أن كان «نامياً»، لكنه استطاع أن يحقق قفزات تنموية كبيرة جداً، كان لها من الإيجابيات نصيب، وكذا من السلبيات نقيض آخر؛ نظير الجمود الفكري الذي شكّل لنا حلقات انغلاق قيدت كل الأفكار المستقبلية لتنوير المجتمع، فبات التطرف الفكري والعنف والتشدد أسلحة للقمع في مجتمع لا يليق به ذلك، لا سيما وأنّ وسطية الدين الإسلامي وسماحته تنبذ كل صور الجمود الفكري والتعصب وسلب الحريات الفكرية التي ضبطت حدودها تعاليم الكتاب والسنة. وكان من محصلات محاربة التقدم والتنوير المجتمعي ظهور فئات مجتمعية أعطت لنفسها الحق في توجيه المجتمع نحو التشدد والتنطع والسير في خطى لا تسمح بالتغيير والانفتاح المعتدل المسؤول، وبالتالي تولد لدى المجتمع ما يسمى ب»تأجير العقول» لكل من يملك مهارات الوصاية الفكرية؛ لدرجة أنّ هؤلاء اصبحوا يشككون في المؤسسة الدينية عندما تتصدى لهم بالمنهج القويم، والحجة الدامغة، والبيان الذي يكشف كل غموض والتباس، ولكن وبكل أسف كانت إيدولوجيا دعاة الوصاية الفكرية أكثر تأثيراً على البعض، خاصة ممن هم في مراحل سن مبكرة ودفعتهم مشاعرهم المؤججة لتحقيق أهدافهم الشخصية على حساب سمعة الدين الإسلامي، والإضرار بالوطن. وحين فقدنا كثيراً من أبنائنا ممن زُجّ بهم في مناطق التوتر والصراع السياسي في عدة دول، تحت ستار الجهاد المخالف للشرع، كان هناك فئة أخرى زُج بهم إلى شبكات التواصل الاجتماعي «تويتر» و»يوتيوب» و»فيس بوك»؛ للإساءة لوطنهم، حيث يوجهونهم من خلف الستار لضرب استقرار وأمن هذا البلد الأمين، من خلال التشكيك في ثوابته، وإحباط مواطنيه، والإساءة إلى رموزه، ونستطيع أن نطلق على هؤلاء «المتطرفين اليمينيين»، كما أُبتلي مجتمعنا الوسطي المعتدل بمنحرفين آخرين نستطيع أن نسميهم «المتطرفين اليساريين»، لا يكلون ولا يملون في الإساءة للدين، والقيادة، والوطن، والشعب، وتقديم الولاء لدول آخرى، مدعين بأنّهم نشطاء سياسيين!. وفي الواقع بأن الصنفين السابقين لا يمثلون إلاّ القليل في المجمتع؛ لأنّهم على النقيض مما يقولون ويفعلون، في حين أن المجمتع الحقيقي كان حاضراً في كثير من الأحداث التي تمر وتعصف بالمنطقة العربية عموماً، وبالذات ما يسمى جوراً ب»الربيع العربي»، حيث وقف السعوديون الوطنيون المخلصين في وجه هؤلاء المتطرفين، حينما أرادوا أن يزجوا بالمملكة في دموية الثورات العربية التي مزقت الأوطان، وشردت الأسر، وزعزعة الأمن والاستقرار. وحدة وطن تلتف خلف القائد العظيم «عبدالله بن عبدالعزيز» وولي عهده الأمير سلمان مواجهة الفتنة! وقد وجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- كلمة لأبنائه وبناته من شعب المملكة الذين أثبتوا للعالم أجمع قوة التماسك الوحدوي العظيم بين القيادة والشعب؛ مما أفشل أحلام أعداء الوطن إبان نداءاتهم الفاشلة لإشعال ثورة الفتنة، وقد جاءت كلمة المليك -حفظه الله- كتاج تقدير وامتنان توج به الوفاء الشعبي الكبير، وأعقبه بعدة قرارات أكملت مسيرة الإصلاح والتطوير التي انتهجها في قيادته، و قد كان نص كلمته التاريخية: كم أنا فخور بكم والمفردات والمعاني تعجز عن وصفكم، أقول ذلك ليشهد التاريخ وتكتب الأقلام وتحفظ الذاكرة الوطنية بأنكم صمام الأمان بعد الله لوحدة هذا الوطن وأنكم صفعتم الباطل بالحق والخيانة بالولاء وصلابة إرادتكم المؤمنة. أيها الشعب الكريم.. أسمحوا لي أن أخاطب العلماء في هيئة كبار العلماء أو خارجها الذين وقفوا ديانة للرب -عز وجل- وجعلوا كلمة الله هي العليا في مواجهة صوت الفرقة ودعاة الفتنة، ولا أنسى مفكري الأمة وكتابها الذين كانوا سهاماً في نحور أعداء الدين والوطن والأمة، وبكل اعتزاز أقول للجميع ولكل مواطن ومواطنة إنّ أي أمة ترفع كلمة الحق لا خوف عليها وأنتم في قلبها الأمناء على الدين وإستقرار هذا الوطن. قائد عظيم يشير إلى وحدة مجتمعه كسلاح لمواجهة الطامعين والحاسدين أيها الرجال البواسل في كافة القطاعات العسكرية، وأخص بالذكر إخوانكم رجال الأمن في وزارة الداخلية إنكم درع هذا الوطن واليد الضاربة لكل من تسول له نفسه للمساس بأمنه واستقراره، بارك الله فيكم وفي كل ما تقومون به. أيها الشعب الكريم: يعلم الله أنكم في قلبي أحملكم دائماً، واستمد العون والعزم والقوة من الله ثم منكم.. ولا تنسوني من دعاؤكم. والمتأمل لمضامين هذه الكلمة التي خص بها العامة من المواطنين، ثم بدأ في التخصيص من علماء ومفكرين وكتاب ورجال أمن ليدرك حجم الانعكاس العاطفي الصادق، وقوة الولاء المتبادل بين القيادة والشعب بكافة أطيافه؛ ممن كانوا دروعاً فكرية تنبذ كل الأفكار الشاذة والمنحرفة عن الوحدة الوطنية الخالدة. محاربة الإرهاب وعلى مستوى القيادة شكّل مليكنا المفدى نموذجاً فريداً في التعامل مع واقع التطرف والإرهاب، من خلال دوافع تطبيقه للمنهج الإسلامي المعتدل، وتحديداً عندما انحرفت فئة ضالة عن جادة الصواب لتنفيذ أعمال إرهابية داخل بلادنا؛ مما شوه صورة الإسلام لدى الآخر، فعزم خادم الحرمين الشريفين على بذل كل الجهود، وطرح عدد من المبادرات المحلية والدولية لعلاج هذا الإشكال واقتلاعه من جذوره؛ ليُظهر الصورة الحقيقة للدين الإسلامي التي تنبذ كل صور الإرهاب، وتتبرأ منه ومن فاعليه، حتى إنّ الملك عبدالله رسّخ في المفهوم العالمي بأنّ الإرهاب لا دين له ولا ودولة، وليس أحدا بمنأى عنه، مطالباً المجتمع الدولي بالتعاون المثمر لتجريم الإرهاب، وتجفيف منابعه. تلاحم القيادة والشعب أكبر رد على المشككين ومثيري الفتنة الأمن الفكري ويمثّل الدافع الملكي لتعزيز الأمن الفكري من خشية الملك عبدالله على مجتمع وطنه الآثار الناتجة عن التطرف، والعنف، والغلو، والإرهاب، فراح يدعم أبناء الشهداء في كل مناسبة، وقدّم مبادرات لاستصلاح من زلق فكره في وحل الفئات الضالة، فيما تمحور الدافع النفسي لحبيب الشعب في حرصه -حفظه الله- على منع محاولات الفتنة والانقسامات، واتضح ذلك جلياً حينما شرف الحفل الكبير الذي نظمه أهالي منطقة القصيم احتفاءً بزيارته الكريمة للمنطقة قبل عدة أعوام، حيث أشار إلى ذلك في كلمته للمواطنين: «سبق لي أن قلت وأكرر أمامكم الآن أنّ هناك أمرين لا يمكن التساهل فيهما: وهما شريعتنا الإسلامية ووحدة هذا الوطن، وأصارحكم القول أنني أرى أنّه لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة، ولا مع متطلبات الوحدة الوطنية أن يقوم البعض بجهل أو بسوء نية بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان، فهذا علماني، وهذا ليبرالي، وهذا منافق، وهذا إسلامي متطرف، وغيرها من التسميات، والحقيقة هي أنّ الجميع مخلصون -إن شاء الله- لا نشك في عقيدة أحد أو وطنيته حتى يثبت بالدليل القاطع أنّ هناك ما يدعو للشك -لا سمح الله-». وكأنه في هذه الكلمة يبين لنا جميعاً بأنّ الدليل القاطع ولا غير هو الذي يجب أن نبني عليه سلامة العقيدة أو التحقق من وطنية الفرد من عدمها. آفاق متجددة ولو حاولنا رصد جهود وتوجهات ومواقف خادم الحرمين الشريفين؛ فإننا نلمس انعكاساتها الإيجابية الباعثة لثقافة الأمن الفكري، فقرار إنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني فتح آفاق متجددة بين كافة أطياف المجتمع للتقارب الفكري وتقبل الرأي الآخر محلياً، وبدأت المرحلة الأخرى للتوجه نحو الحوار الدولي، فتم إنشاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في «فيينا»؛ لإرساء أسس التفاهم والتعايش بين المجتمعات الإنسانية في العالم أجمع، وطرح القائد المخلص فكرة إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب بهدف التعاون الدولي تحت مظلة أممية لمواجهة الإرهاب، وتبرع -حفظه الله- بمبلغ مائة مليون دولار لدعم المركز وتفعيل نشاطه، ليثبت للعالم أجمع بأن الإسلام دين سلام وأمن واستقرار. وتوالت القرارات الملكية وفقاً لمعطيات كل مرحلة ومستجداته ما يعطي الجميع انطباعاً بأنّ قائد الأمة الإسلامية حريص على تعزيز الأمن الفكري بشكل مستمر، وما يدل على ذلك قراره الحكيم في تجريم الاقتتال في دول الصراعات، وتجريمه إنتماء الأفراد للجماعات والأحزاب؛ إنطلاقاً من ضرورة التمسك بمقاصد الشريعة السمحاء؛ للحفاظ على أمتنا في دينها، وأمنها، ووحدتها، وتآلفها، وبعدها عن الفرقة والتناحر والتنازع. تعزيز التوجهات والمتأمل لهذه القرارات الملكية سيدرك مدى الحرص الملكي الكريم على سد أبواب الذرائع والأخذ بمبدأ تعزيز توجهات ومواقف الأمن الفكري وفق متغيرات العصر المتسارعة، والتي تعصف بين الفينة والأخرى بالعالم أجمع، لكن هذه البلاد المباركة بحمد الله وتوفيقه قيض لها الله -سبحانه وتعالى- قيادة وشعب استوعب كلاً منهما أدوار المواطنة الصالحة فارتقى أمن الوطن، وتباهى باستقراره حاضراً ومستقبلاً؛ لذا نجد أعداء هذه الوحدة الوطنية يفشلون ويعاودون الفشل مراراً وتكراراً للنيل من قوة التماسك الوحدوي، وهذا ما يجعلنا نجدد العهد والولاء، ونحرص على المحافظة على مكتسباتنا الوطنية الخالدة، ونغرس ذلك في نفوس أبنائنا حتى لا تتخطفهم منايا الانحرافات الفكرية.