قد لا أكون مخطئاً إذا قلت إننا في هذه السنوات القليلة الراهنة نعيش عرس الآثار في المملكة العربية السعودية بحق وحقيقة، وأن آثارنا الوطنية أضحت حديث العالم ليس من خلال ما عرض ويعرض وسيعرض في مختلف المتاحف العالمية وحسب، وإنما من خلال ما يدور في أروقة الجامعات العالمية وقاعاتها من محاضرات وندوات ومؤتمرات عما كشف ويكتشف من آثار المملكة في مختلف حقب التاريخ. كيف لا؟! وعجلة الكشف والتنقيب عن الآثار في بلادنا لا تكاد تتوقف، ويضطلع بأعمالها حوالي ثلاثين بعثة أثرية عالمية وسعودية مع شركاء من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا واليابان والولايات المتحدةالأمريكية وغيرها، وحوالي اثنتي عشرة بعثة سعودية محلية خالصة من جامعة الملك سعود، وجامعة حائل، وجامعة جازان، وقطاع الآثار والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والآثار. وفي كل موسم من مواسم التنقيب في المملكة توافينا تلك البعثات بعشرات النظريات عن عمق الاستيطان البشري على تراب المملكة العربية السعودية، ذلك الاستيطان الذي تجاوز عمقه في مناطق متعددة من المملكة أكثر من مليون عام، وكذا عن البيئة الطبيعية القديمة التي كانت في عصور مطيرة خَلَت جنة خضراء، وحديقة كبرى تعيش فيها مختلف الحيوانات بما في ذلك الأسود والفيلة حيوانات أخرى منقرضة، وقبل ذلك دلائل على وجود الديناصورات وخلافها. كذلك توافينا أعمال هذه البعثات كل عام بالآلاف من اللقى الأثرية التي من المؤمل أن تمتلئ بها قاعات 24 متحفاً قائماً وتحت الإنشاء في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية ومحافظاتها، وأن يُشَارَك ببعض نوادرها في معارضنا التي تطوف العالم من غربه إلى شرقه. ويجيء مؤتمر الجزيرة العربية الخضراء الذي عقد في جامعة أكسفورد البريطانية في المدة من2-4 جمادي الآخرة 1435ه/2-4 أبريل 2014م تتويجاً لمكتشفات كثيرة جرت على أرض المملكة من قبل عدد من البعثات الأثرية العالمية المشتركة مع سعوديين، بالإضافة إلى كونه ثمرة تعاون قائم بين باحثين من المملكة العربية السعودية وآخرين من المملكة المتحدة البريطانية امتدت لأكثر من عقد من الزمان ركز خلالها على البحث في تاريخ الجزيرة العربية القديم بهدف الربط علمياً بين الأبحاث والدراسات المتعلقة بالتغيرات المناخية والتحولات البيئية ضمن مشروع الصحاري القديمة ومقره جامعة أكسفورد البريطانية، وهو ما يعدّ فرصة ثمينة للتعاون الرامي إلى تنشيط حركة البحث العلمي في مجال اختصاصه، وجسراً يربط بين مختلف الثقافات العالمية، خصوصاً وأن هذا المشروع يعدّ من المشروعات العالمية المهمة، وفي جامعة تعدّ من أعرق الجامعات في العالم، ألا وهي جامعة أكسفورد. ويهدف المؤتمر الذي شارك فيه عدد من علماء الآثار والبيئة من المملكة العربية السعودية وبريطانيا، ودول أخرى أوربية وأمريكية إلى اكتشاف العلاقة بين التاريخ البشري والتغيّر المناخي في الجزيرة العربية من خلال ما اكتشف من آثار في مواقع أثرية متعددة في المملكة العربية السعودية، ومقارنتها ببيئات أخرى من العالم القديم، وما توصل إليه العلم الحديث من دراسات وبحوث في هذا المجال. وكان على رأس المشاركين في هذا المؤتمر صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار الذي شارك في حفل الافتتاح بكلمة ضافية بل بمحاضرة قيمة تعدّ مقدمة منهجية لما ألقي في اليومين التاليين من بحوث وأوراق عمل حيث تناول سمو الأمير سلطان في محاضرته العمق الحضاري للجزيرة العربية منذ ما قبل التاريخ بما في ذلك التغيرات المناخية، وتأثيرها على أرض الجزيرة العربية التي كانت في يوم من الأيام مليئة بالبحيرات والبساتين والأنهار، ولم تكن مفرغة من الحضارات، ولم يَفُت سموه الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي دعا الله سبحانه وتعالى في ختامها بأن تعود الجزيرة العربية خضراء مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم من صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: "لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً". كما شارك في المؤتمر نائب رئيس الهيئة للآثار والمتاحف سعادة الأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم غبان في الجلسة الأولى للمؤتمر في ثاني أيامه بمحاضرة تناولت المكتشفات الأثرية التي تمت على أرض المملكة العربية السعودية، وفيها أبان الدكتور علي في محاضرته عن مكتشفات جديدة هي على جانب كبير من الأهمية، وممن شارك في المؤتمر ببحث متخصص في موضوعه سعادة الدكتور عبدالله الشارخ عميد كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود، واختتم المؤتمر بكلمة تناسب المقام ألقاها سعادة أ.د. سعد بن عبدالعزيز الراشد مستشار سمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، وكيل وزارة التربية والتعليم الأسبق للآثار والمتاحف. يُشَار إلى أن المملكة العربية السعودية تتميّز بموروث حافل عن البيئات القديمة حيث أثبتت المكتشفات الأثرية احتواء أرض المملكة على بحيرات جافة، ومجارٍ لأنهار تلفّها بقايا مجتمعات بشرية تراوحت ما بين متنقلة وأخرى أكبر حجماً، وأكثر تمدناً واستقراراً، خصوصاً في الواحات، وعلى ضفاف الأودية التي كان معظمها في يوم من الأيام جارياً.