إنها نفوس مؤمنة اختص الله بها بعض خلقه، تحملهم على الرضا والتسليم، ليس هذا فحسب، بل ها هي تنتزع عثرات المفردات في لحظة اللقاء، ليتحول المصاب إلى سائل كريم يحنو على زائريه، وينزع ما في قلوبهم من وجل وما يختمر في صدورهم من هواجس الرحيل القريب ليس أقسى من مشهد الموت البطيء، وتزداد القسوة عندما تقف عاجزاً أمام داء وبيل لا أمل في الشفاء منه، ولا قدرة على إيقاف تغوله على جسد يتوقف كل يوم جزء منه عن الحياة. يعتقد كثيرون أن الأمراض المستعصية كأمراض السرطان، هي أعظم الداء وأشق البلاء.. وهم محقون.. إلا أن التطورات العلمية والكشوف الطبية والتقنيات الحديثة أنقذت كثيرين من بعض أنواعه، وأعادت بعضهم إلى حياة طبيعية أو شبه طبيعية. ولم أكن أدرك أن هناك داء أعظم ومرضً أشرس، حتى عايشت مصاباً عن قرب.. فهو يفقد كل يوم جزءاً منه.. موت بطيء قد يطول بالمصاب لسنوات.. موت محقق ولكنه بطيء عنوانه العجز والموت التدريجي إلى أن يأذن الله بالنهاية المحتومة. أن تقترب من مريض أصيب بمرض "ضمور الخلايا العصبية" في عز شبابه، لترى بين الحين والآخر عطالة جزء منه عن الحركة، حتى يصل إلى حالة عجز كامل، فلا أمل في برء ولا حيلة في إيقاف تمدد هذا الداء الخطير.. فأنت حينها ستكون أمام اختبار نفسي قاس، ومواجهة مؤلمة.. فماذا ستقول لمن يموت كل يوم جزء منه حين تعوده، وبما تخفف عنه، وكيف تستوي قامتك إذا أردت مغادرة غرفة مشفى حفظت تفاصيله.. فأنت تدرك وهو يدرك أنه لن يخرج منه إلا محمولاً لمثواه الأخير!! إلا أن لله رحمات، ومن رحمته أن يلقاك مريضك رغم الداء العضال والموت البطيء بابتسامة وكلمة راضية.. فإذا التوجس من النظر في عينيه يتراجع، وإذا قدرتك على الحديث تستعيدك، وكأنك تعود عزيزاً سيخرج غداً يمشي على قدميه.. ولست أمام جسد مسجى لا يتحرك فيه سوى عينيه وشفتيه وذاكرته المتوهجة.. حتى أنفاسه يلتقطها بمساعدة جهاز لا يفارقه!! إنها نفوس مؤمنة اختص الله بها بعض خلقه، تحملهم على الرضا والتسليم، ليس هذا فحسب، بل ها هي تنتزع عثرات المفردات في لحظة اللقاء، ليتحول المصاب إلى سائل كريم يحنو على زائريه، وينزع ما في قلوبهم من وجل وما يختمر في صدورهم من هواجس الرحيل القريب. إنه درس بليغ مؤثر تعجز عنه بلاغة البلغاء وعظة الواعظين وكلمات الرثاء الحزين. تتثاقل الخُطى... يهش بعصاه أوراق الخريف وطيف الذكريات.. يلملم بقاياه.. كيف يقوى بعد هذا الغياب؟ *** خمسون عاماً.. يا رحلة العمر اليباب يا طيف تلك الأمنيات يا حلم تلك العشيات والحياة ترنو لمقلتيه ودعابات المساء والعبور الجذل.. في ضفتيه *** يا ويح تلك الأماني يا سر هذا الرحيل وهذا المسجى... ما حيلته والداء وبيل!! *** يعبر الممر الطويل تحتبس شفتاه يخطو... فإذا الصوت يناديه أحقاً هو.. أما بقايا الأمس البعيد لا الجسد الضامر لا الموت يأكله منذ سنين لا قسوة الباغي الأليم لا سحابات الوجد.. ولا الأنين عيناه يا عيناه .. يا ذات البريق يا ابتسامته الصبوح يا صوته الدافئ .. يا ذاك الحنين *** تنسحب آلامه خجلا يتهاوى السواد ..من ناظريه تأكله الدهشة... فلا الضمور أسدل حاجبيه ولا الأسى... أخفى بريق عينيه ولا هزائم العمر... طوته في كهف الرحيل... قبل الرحيل من يصارع من؟ من يجثو إذن على ركبتيه؟ *** يبادره السؤال فتنثال المفردات بعضها معنى .. وأخرى شاردات يحدثه عنهم ... وعن ايقونته الصغيرة وعن سنوات العمر الجميل فلا شكوى.. ولا انتظار لا هزائم ... ولا انكسار فقط.. وهج يتضوع بين الستائر والنوافذ والجدار *** سيدتي.. أفنيت عمري أُلاحق الوجع في كتب الراحلين أبحث عن ضوء.. أتراءى له في خريف العمر لأقاوم أحزان الشتاء وغربة الزمن الكئيب أعترف.. لك: هذا المساء.. لقنتني الدرس الأثير!!