في سيرة كل شاعر شعر كثير، يحسن بالشاعر أن يهمله، لأنه لا يستوفي معايير الجودة المطلوبة، ولكن بعض الشعراء يرون أن كل ما يأتيهم في ساعات النظم هو «وحي» يوحى، وأنه حرام عليهم أن يتبرأوا منه، ويعمد أولئك الشعراء في العادة إلى ضم ذلك الشعر الضعيف إلى دواوينهم، فلا يحصدون من صنيعتهم تلك إلا الخيبة.. فقد ندم كثيرون على تسرّعهم بالنشر، منهم محمود درويش الذي كان لا يعترف بديوانه الأول! وكثير من النقاد، من قرضوا الشعر في مرحلتهم الأدبية الأولى ثم انصرفوا إلى سواه من فنون القول. القرزمة ممر إجباري يمر به كل الشعراء عادة. فما من شاعر إلا وعرف القرزمة وفي الطليعة أبوالشعراء أبوالطيب المتنبي. فقد رووا أنه كان له في مرحلة الصبا شعر كثير أهمله. وقد أهمل لاحقاً شعراً آخر حجبه عن الناس وكأنه خجل به. ولا غرابة في ذلك فلا يجوز للشاعر أن يظهر لقارئه إلا في كامل إناقته. وقد زرتُ مرة كرمة ابن هانئ في الجيزة بمصر، وهي منزل أمير الشعراء شوقي، فوجدت في إحدى صالات الطابق الأرضي، على رفوف إحدى الطاولات إضبارات تحتوي قصائد لشوقي هي من شعر الصبا أيضاً ومن أسوأ ما كتب. ولا أدري ما إذا كانت الشوقيات تضمها أم لا. على أن في سيرة كل شاعر شعراً كثيراً يحسن بالشاعر أن يهمله لأنه لا يستوفي معايير الجودة المطلوبة. ولكن بعض الشعراء يرون أن كل ما يأتيهم في ساعات النظم هو وحي يوحى، وأنه حرام عليهم أن يتبرأوا منه. ويعمد هؤلاء الشعراء في العادة إلى ضم هذا الشعر الضعيف إلى دواوينهم فلا يحصدون من صنيعهم هذا إلا الخيبة. على أن القرزمة - والشعر المهمل هو وجه آخر لها - إذا كانت ممراً إلزامياً للشاعر، فلا يجوز أن تتعدى مهلة زمنية محدودة خلالها يتفحص المرء وضعيته وما إذا كانت تؤهله لمتابعة الطريق أم لا. إما أن يكابر المرء ويتابع محاولاته الشعرية فترة طويلة لعل وعسى، فأمر لا ينصح به أساتذة هذه الصناعة. فللشاعر أماراته التي لا تخفى، وأولها توفر الذات على الشاعرية. وبدون هذه الشاعرية من العبث طلب الشعر بالعلم والقراءة والكدّ والمشقة. فهذه، على أهميتها بالنسبة للشاعر، لا يمكنها أن تولّد شرارة الشاعرية في ذات خالية منها. فبداية الشعر نار تنبعث في الذات وتبحث عن وسيلة للتعبير عنها. وبدون هذه النار لا شعر ولا قصائد. وأذكر أنني وأنا طالب في بداية المرحلة الثانوية في مدرسة الحكمة ببيروت، حضرت عدة مجالس للشاعر الكبير بشارة عبدالله الخوري. كان للشاعر مجلس دائم في أحد مقاهي ساحة البرج وسط العاصمة يغشاه شعراء وأدباء ومثقفون. وقد صحبني إلى هذا المجلس زميل لي أكبر سناً مني كان يعرف الأخطل من قبل. ولأنه وجدني مهموماً بقراءة دواوين الشعر، وكذلك بمحاولة كتابته: فقد قال لي إنه سيصحبني في الغد إلى مجلس الأخطل. وهكذا كان. كان الأخطل الصغير في الستينيات من عمره يومها، يشرب القهوة ويتحدث عن ذكرياته. وقد انتهزت الفرصة لأسأله السؤال الساذج التالي الذي يفصح عن حالي. قلت له: كيف أصبحت شاعراً وما الذي يستطيع طالب في مثل عمري أن يفعل ليصبح شاعراً؟ أعجب الأخطل بهذا الطالب الذي سأله، والذي يتلقى العلم في نفس المدرسة التي تلقى هو العلم فيها، وقال له: أول الشروط، لكي يصبح المرء في يوم من الأيام شاعراً، هو الشاعرية. فلا شعر بدونها ولا لزوم لكي أشرحها مطولاً لك، ولكني اكتفي بالإشارة إلى قلق الروح واستعداد فطري عند المرء ليقول شيئاً مختلفاً عما يقوله نثراً، وأنصحك بأن تقرأ كثيراً وألا تستعجل في النظم والنشر على السواء. فإذا مرت فترة على ذلك ووجدت أنه لم تستقر لك علاقة وثيقة مع الشعر، فاتركه ولا تلتفت إليه مرة أخرى، وإلا كنت كمن أشار إليه الشاعر بقوله إنه قطع الحياة بغلة لم تنقع.. وروى لنا الأخطل الصغير في مجلسه ذاك حكايته مع الشعر وكيف أصبح شاعراً. قال إنه كان يتردد في صباه، وهو دون العشرين من العمر، إلى حلقة الشيخ اسكندر العازار شيخ الحلقات الأدبية في ذلك الزمان. كان يقرأ على الشيخ قصائده فيتناولها بالنقد اللاذع وهو يردد: لن تكون شاعراً يا بشارة، أنت صحفي، دع الشعر لسليم، مشيراً بذلك إلى سليم العازار أحد أعضاء الحلقة. وذات ليلة كنا في مقهى من مقاهي بيروت البحرية نجلس حول الشيخ. فالتفت إليّ فجأة وقال: هات ما عندك يا بشارة.. فقرأت عليه قصيدة لا أذكرها. فلما انتهيت تبسم وهو يحمل صدفة من صدفات التوتيا يعمل سكينه فيها ويتناول لحمها اللذيذ وقال: شعرك مثل التوتيا هذه، جزء من اللحم اللذيذ وتسعة وتسعون جزءاً من الصدف الشائك الذي لا يصلح لغير.. وهنا توقف عن الكلام ونظر إليّ ساخراً ورمى الصدفة في البحر. إلى أن جئت الحلقة ذات يوم بقصيدتي التي مطلعها: عشت فالعب بشعرها يا نسيم واضحكي في خدودها يا كروم فصفق لها الشيخ وهلل، ثم ربّت على كتفي قائلاً" ظل بشارة يهذي حتى نطق بالشعر أخيراً.. ويبدو أنه كان للأخطل شعر كثير طواه بين أوراقه ولم ينشره. وقد تحققت من ذلك بنفسي. فقد صحبني يوماً نجله عبدالله، وكان أيضاً شاعراً، إلى مكتبه في محلة الروشة ببيروت. وهناك أطلعني على أوراق قديمة لوالده منها قصائد كان نظمها في مراحل مختلفة من حياته ولكنه آثر ألا ينشرها. وحسناً فعل ذلك لأنها كانت بالفعل رديئة ولو نشرها لأساءت إليه. ويبدو أن مما شجع الشاعر على وأدها، أنه كان صحفياً لا شاعراً وحسب. فللصحفي ملكة نقد لا تتوفر أحياناً للشاعر. فهذا الأخير مقتنع بداية، وحتى يثبت العكس، أن كل ما يرد إلى خاطره في ساعة النظم جدير بالنشر.. وقد ندم كثيرون على تسرّعهم بالنشر. منهم محمود درويش الذي كان لا يعترف بديوانه الأول الذي نشره في فلسطين ويعتبر أنه لا قيمة له. وكان طه حسين قد نشر شيئاً من الشعر في بداية حياته ثم أهمل هذا الشعر لاحقاً ونسي مع الوقت أنه نظم الشعر في شبابه. وهناك كثيرون من النقاد، غير طه حسين، قرضوا الشعر في مرحلتهم الأدبية الأولى ثم انصرفوا إلى سواه من فنون القول منهم جابر عصفور. ومع أن هناك من ينظم الشعر، على أصوله، كالنحاة واللغويين وبعض المستشرقين، إلا أن ما ينظمونه لا يحتوي على تلك النار العاصفة التي يفترض أنه تشيع في الشعر. ولذلك يقال إن هذا الشعر شعر نحاة وما إلى ذلك. إن كل ذلك يدل على أن الشعر فن لا يحتمل الوسط، فإما أن يكون شعراً عالي القيمة، وإما أن لا يكون شعراً. وهذه نقطة نظام على الشاعر أن يتنبه جيداً إليها سواء كان يمر في مرحلة القرزمة أو تجاوزها إلى مراحل لاحقة.