أن يتجرأ السينمائي ويقتبس حكايته البصرية من إحدى تلك الروايات التي خلبت لب قارئ ما في مكان خارج المكان وزمان ليس نفس الزمان، فذلك معيار كاف لتقدير شجاعته وربما وفائه لأحد الأجناس الفنية الأكثر ألقاً وجمالاً، لكن ما الذي يمكن أن نصف به فعل من يكتب وينتج ويخرج فيلماً يقوم على قصة قصيرة للراحل الأثير خورخي لويس بورخيس، وليست أي قصة بل "كتاب الرمال" العمل الذي يعرفه قراء بورخيس جيداً ويعرفه أولئك المعتكفون بين أرفف المكتبات وعلى سلالم التأمل والمطالعة، وفوق الاقتباس تأتي القصة التي تغور عميقاً في القصة القصيرة المذهلة التي تتمدد بنصها إلى مرحلة تعجز عنها حسابات الزمان وتبدو فيها فكرة الزمان مجرد كلمة خالية من المعنى تتربع بتخاذل في صفحة قاموس أثري عتيد. يبدو الفيلم في روايته قطعة من سند مروية عربية أصيلة تعنى بالمشافهة وتأخذ بأصول التواتر، فالنص الذي كتبه الدكتور خالد اليحيا يتكئ على قصة بورخيس الخالدة، لكنه لا يتوقف عند مجرد شحنها بطاقة شبيهة بطاقة ماري شيلي بل يحاول إيقاظ النص وترويضه من خلال ما يشبه الفسيفساء المعاصرة في استعادة لرموز خالدة من الأدب العالمي، تغيرت أوساط التعبير عنها لكنها ظلت ساكنة في الوجدان الشعبي الحديث، يحملها اليوم جيل واع يحاول جاهداً أن يجد لها في ذاكرته المنهكة بالصور والمشاهد والمقاطع ما يمكّنها من البقاء حيةً قدر المستطاع، وهنا يصنع الفيلم حكايته التي لا مبدأ لها ولا منتهى. الفيلم لا يخاتلنا كثيراً فهو يروي الحكاية البورخيسية بإيقاعها المعتاد، رجل يعرض على بورخيس كتاباً قديماً، ربما هو مخطوط نادر، نحن لا نعلم عنه الكثير، لكن الرجل الذي جاء بنفسه يعرض كتابه الأثري الثمين يقايضه بمجموعة من الكتب النادرة، ويغادر المكتبة زاهداً فيما تركه، وربما سعيداً بما خلفه من أثرٍ وراءه. إن أزمة الفيلم أو بالأخص نقطة التوتر فيه هي الكتاب أولاً وأخيراً فبه الحكاية تنفست شهقتها الأولى ثم اختنقت به في المنتصف مع بوادر الأزمة التي اكتشفها بورخيس في هذا الكتاب الذي يحمل على غلافه عبارة "كتاب الرمال"، إذ أن الرمال لا تبقي أثراً على حاله في عملية تبدل وتشكل لا منتهية، فكل ما تورده صفحة من ذلك الكتاب لا تعود تبديه مطلقاً، وهكذا تبقى أسيراً لكم هائل من المعلومات التي ينبش فيها د. اليحيا تاريخ وفلسفة العلوم في سياق معرفي يستحوذ على المشاهد وربما يفزعه، إنها عملية فوكوية بامتياز، نمط من حفريات المعرفة ولكن من خلال معادل بصري ساحر، يقودنا من خلاله المخرج الشاب بدر الحمود الذي عرفناه في أعمال سابقة كانت قريبة من الحس الاجتماعي العام، لكنه يأتي في هذا الفيلم مسلحاً بخبرة جيدة وفريق عمل متكامل وبإنتاج رفيع، ومن خلال سيناريو محكم في فكرته المعرفية الباذخة استطاع به الكاتب والمخرج السعودي الزميل عبدالله آل عياف أن يجعل النص يسير بسلاسة ويسر رغم العمق الثقافي والمعرفي الذي يقوم عليه النص المأخوذ عن القصة البورخيسية. ربما تشرح الأجواء المحيطة بالفيلم سر الحكاية، فهذا الفيلم جاء من خلال تعاون الثلاثة لتقديم فيلم يؤسس لمسابقة "اقرأ" التي نظمتها مبادرة أرامكو السعودية لإثراء الشباب، التابعة لمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، ولعل من الذكاء استهداف جمهور القراءة والكتاب من خلال حضور الروائي الشاب الحاصل على البوكر في دورتها الأخيرة الكويتي سعود السنعوسي، والكاتب والروائي والمؤرخ الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل للحفل الختامي الذي عرض فيه فيلم "كتاب الرمال" الذي يحتفل بالمعرفة وحب الحكمة والبحث عن الحقيقة، عن دون كيخوته وسنيك ونيو وشهريار وجحا ودراكيولا وزوربا والجاحظ، إنها حكاية الحكايا وليس يخلدها فيلم أو كتاب، ربما تستطيع الذاكرة البشرية أن تحفظها لاستعادة ما قد تكون قريبة.