من خلال المنبر الحر "الشبكة .. النت" اطلعت على تحليل جميل كتبه أبو فواز الحربي حول أبيات ابن عساف الجهني "سلام سلام يا جرة قدم ثلاب سلام" ، وعلى تعليقات كثيرة مصاحبة أو متباعدة. وأسميه المنبر الحر لحرية الطرح من خلاله دون رقيب أو محرر مسؤول، وإذا كانت الحرية المطلقة لها سلبيات فإن إطلاق الروايات وفق هوى رواتها يتيح للباحث فرصة معالجتها والتوفيق بينها وترجيح الأقرب منها للواقع أو إعادة صياغتها وفق معطيات المعالجة المقبولة فالروايات الشفهية تخضع للهوى والاجتهاد واحتمال خطأ النقل وارد، والتصحيح المبني على أسس منطقية مقبول ما جاء عن رواية أو رؤية نقدية ثاقبة. وابن عساف الجهني بحار ومن أسرة بحرية ومعروف لدى موانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي، في زمن السفن الشراعية التي تضطرها العواصف للرسو في الموانئ فترات تطول وتقصر حتى تزول أسباب الرسو. ومن هنا تنشأ العلاقات الودية بين البحارة وأهل الموانئ، ومن المؤكد أن ابن عساف أحب فتاة من أسرة عريقة في جازان وذات نفوذ، وتقدم لخطبتها فوافق والدها ورفض إخوتها، وخاف أبوها من غدرهم بالشاعر فأنذره وغادر البلاد مشدوداً نظره وقلبه إلى حبه فيها وإلى دياره في أملج من منطقة ينبع، يظهر ذلك من قوله: واعيني اللي تلد خلافها والدرب قدامْ وتلد يم اليمن وتكثر اللدَّات شامِ نعود إلى الدافع لكتابة هذه المقالة وهو ما يتصل بالأبيات من حيث: أولاً – ثلاب: وهي على وزن غلاب ومن معناه. والثلب في اللغة الذم والعيب، وثلبه أظهر عيوبه وأضعف حجته. وثلاب اسم للمذكر ويطلق على النساء وصفاً ويسمى به الرجال تفاؤلاً بغلبتهم من ينافسهم جمالاً وخصالاً ومواقف. وثلاب للمرأة التي تخلو من العيوب التي قد يصمها الخصوم بها، أي أن ثلاب هو من لا يوجد به مثلبة (مْسكِّتْ). وكثير مما قيل في التحليلات المشار إليها من قبل ليس له وجه من الصحة. والشعراء يستخدمون كلمة "ثلاب" تعبيرا عن كمال صفات الممدوح، وقد تأتي تورية عن ذكر الاسم واشارة إلى التميز والتفوق، وكلمة "زيد" أيضاً عند التغزل بامرأة يحتشم من ذكر اسمها احتراماً وخشية التأويلات والحذر من الاحتجاجات واحترام من يغضب لذكرها. أما إطلاق المذكر على المؤنث فمنهج في الشعر العربي قديم، كان امرئ القيس الملك الضليل ممن تخذه في شعره: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" وظل ذلك إلى اليوم سائداً في الشعر العربي الفصيح والشعبي. وما عرفت امرأة باسم ثلاب، والشعراء يطلقون ذلك على من يتغزلون بها كناية عن جمالها وكمالها واستعصائها على المثالب. ثانيا – مولد العام: وليس من الضروري أن يكون بداية العام بل إنهم يطلقون مولد على شهري ربيع باعتبار إن ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم حدثت في أحدهما. أما الأبيات فهي أبيات شجن وتوارد خواطر صحبت الشاعر منذ نشأتها، وظل يتغنى بها حتى العشر من شهر رمضان. ولأن الرواة الذين تناقلوها كُثر تعرضت للحذف والإضافة حتى جاءت بالنص المشار إليه في التحليلات، ومشاهدة المحمل إن كان حقيقة فربما شاهد به من ذكرته بصاحبته، وإن كان تخيلا فتعبير عما يتصور من رغد عيشها وعزة أهلها وسلطانهم، حتى تخيل وجودها في كل موكب يليق بمثلها. ومما أحسبه مضافا إلى الأبيات: يسقيك يا الديرة اللي ما بعد جيتك من العام واليوم مرت بي الغربة وبارد السلامِ فكلمة (ما بعد) نادر استخدامها في الحجاز، والغربة صحتها الطرقة وبارد صحتها أبى ارد، وهناك بيتان شاردان: سلام يا الديرة اللي لي ثمان سنين ما اجيكِ واليوم مرت بي الطرقة وابى ارد السلامِ قالت لي الديرة انا طيبة الله يخليك ما فاقدة غير وبل الغيث ونزول الجهامِ وربما حدث اختلاط بين النصين . وبعد محاولات ومتابعة أدون الأبيات فيما يلي كما أرى: قال المولَّع بدع زين اللحن في مولد العام وظلا يغني بها للعشر من شهر الصيامِ سلام سلام يا جرة قدم ثلاب سلام سلام لو كان جرة ما تردين السلامِ وسلامْ يا محملاً أقبل بدندارة وخُدَّام تنداه غير السرايا من سْروق ومن حرامي ويا من لعينٍ تِلدْ خلافها والدرب قدام وتلد يم اليمن وتكثر اللدَّات شامِ ويا من لقلب على الطيِّب يحن ويرزم ارزام ارزام خلج طلوع سهيل يوم القيظ حامي يسقيك يا الديرة اللي ما بعد جيتك من العام واليوم مرت بي الطرقة وابى ارد السلامِ قلت اقهر الزمل اوادع، قال هيا الدرب قدام الله لا يرحم الجمّال مدهون الرسامِ يا من سميه يجي بين الليال وبين الايام اقفاية الليل واقبال النهار من الاسامي والاسم الآخر يذكَّر في المدينة بندر الشام شربه من الما القراح ولا نزل درب المظامي أبكي نهارين وادله يوم وابكي عشرة ايام وابكي على خاتمي زين الحواجز واللثامِ يا زين يا ليت لا مانا ولا مك عشرة اعوام ناخذ مية عام يا ثلاب لا ماكم ولامي حتى ليا جا القضا ندفن سوا في صف نلتام حتى عظامك مع البيدا تلاقيها عظامي هذه هي الأبيات الدارجة وقد يكون الأصل تعرض للإضافة والحذف كما ذكرت آنفاً، إلا أن الدارج منها حظي باهتمام الرواة والشداة، وفي ترجمة للشاعر أورد المؤلف محمد حامد السناني في كتابه: شعراء من الحوراء (ديار جهينة) تسعة أبيات فقط ولم يورد الأبيات الرابع والسادس والسابع مما أوردنا وقد تكون هذه الأبيات دخيلة لانسجامها مع الحالة. وكلمة تنداه بمعنى تحميه وتزفه، والد ندارة والخدم هم الخدم والحشم الذين عادة ما يرافقون السلاطين والوزراء ومراكزهم قريبة من المعنيين وهؤلاء إضافة إلى السرايا من الجند والحراس، وقد أشار للحراسة والمكانة في قصيدة أخرى يحن فيها لديار الحبيبة منها : حاميك واليك ما يبغى مخالط كل الاجناس البيت مبني حجر والباب قفله هندواني العام مريتكم والين دونك مد حباس ولياه يرمي على اليسرى وعن جالك حداني واقفيت يا سيدي يا عل ما يقفاني الباس عساك دايم بخير وفي حسينات المبانى أما اللدات وهو الالتفات مرة إلى اليمن حيث المحبة ومرة إلى الشام حيث الأهل أو الزوجة وبهذا يكون المكان فيما بين جازان وينبع أيهما أقرب إلى إحداهما الله أعلم. وقوله: قلت اقهر الزمل أوادع، مكانها فيما اعتقد عند خروجه من جازان وقد تفادى الجمال لحاق أحد بهما. ثم نأتي لاسم المحبوبة وقد ألغز الشاعر كغيره من الشعراء الذين لا يذكرون أسماء من تغزلوا بهن مراعاة للقيم الاجتماعية وخشية من التأويلات، أو خوفا من غضب ذويهن. ويبدو أنها صبح أو نوره أو منيرة أو منور تدليلاً لنورة أو قريباً من ذلك. نعود إلى الماء القراح وهو الماء العذب الذي لم يفسده الاستعمال أو استخدامه للري كالعيون الجارية والتي من طبيعة مائها الملوحة، والقراح عادة ما يكون في الجبال وآبار السقيا، وقد عرف في الماضي خزانات مياه وضعتها الدولة العثمانية على امتداد طريق القوافل قد يأسن فيها الماء لقلة استخدامه ولسوء خدمته، والمظامي هي الطرق التي تقل بها الموارد أو تفتقد إليها، وهذا وصف يعبر عن رفاهية فتاته. إن المضمون الوجداني وتخيل الحدث وتداعياته صرف المتلقي عن التأمل في ترابط نسيج الأبيات متفاعلا مع التناغم بين اللحن وقضية الشاعر. وحسبنا مخاطبة الجرة وهي أثر الأقدام مثيراً للعاطفة. وابن عساف شاعر مبدع وقصة حبه صحيحة، تأمل مطلع قصيدة مؤثرة يعبر فيها عن شوقه لليمن امتداداً من دياره إلى خليج عدن: هبت علينا اليماني باول الشاتى بنسناس لا واسعَيْد الديار اللي هبايبها يماني وأما عجز البيت: واعيني اللى تلد الخ .. فقد ورد أيضا كالتالي: وان كان تمت على ذا الحال يا ما اطول سقامي واستقامة البيت كما أوردنا من قبل يبدو لي أوفق لتعلق الشاعر بأسرة في الشمال وحب في اليمن، فربما ضاع صدر بيت عجزه: وان كان تمت الخ... ولقد طرقت هذا الموضوع من قبل فمعذرة عن التكرار بداعي المشاركة في الطرح والابانة عن معنى ثلاب. وبالمناسبة فإن عدم الابانة عن الاسم من أدبيات الغزل في الشعر العربي فمنهم من استخدم حساب الجمل ومنهم من استخدم اجزاء الكلمات مثل الشاعر جعلود الهمزاني في قوله: اسمك ثلاث حروف يعرفها الالباب وتجعل سميك من بقلبه هيالِ وقد وردت كلمة «هيال» «هبال» ص 196 الجزء الأول من كتاب: شعراء الجبل الشعبيين للأستاذ عبدالرحمن السويداء، وأظنه خطأ طباعياً صرف السويداء عن معرفة الاسم المكون من ثلاثة حروف «هيا». وربما كان اسمها «هبا» احتمالاً آخر. والشعراء المحبون إذا تغزلوا بمن يحبون وأحيط بهم ولم ينجح إلغازهم تخلصوا من الاحاطة باحالة الحدث إلى حلم: البارحة في الليل جاني مرادي زين الحلايا كاملاً كل الاوصاف الاوله حبيتها حب قادي والثانية حبيتها حب الاسراف والثالثة ضميتها في فوادي واسقيت زرعاً بالحشا عقب ما هاف يوم انتبهت وطار عني رقادي واني بنجد وسيّدي يم الاطراف عسى حلوم الليل تعطى الهجادِ حتى حلوم الليل فيها تغطراف مساكين هؤلاء الشعراء العشاق. وأخيرا فهناك «زيد» النحاة الذي ضربه «عمرو» أو هو الضارب. و«زيد» العشاق يحمل هوية الضرب نفسها ولكنه يضرب في الأعماق. وكلا الزيدين يغير من حالة مستهدفة إما بالحركة في النحو أو بالسكون أو الطفقان في العشق.