كل يوم تسقط ورقة من شجرة العمر كلما غابت شمس يوم سقطت ورقة.. فآه لهذا العمر الذي يتناقص، ويتآكل...البحر لا ينقص، الرمل لا ينقص، النجوم لا تنقص...إنما أيام ابن آدم ورزنامة عمره هي التي تتساقط كل يوم حتى تنفد، لا أحد منا يعرف عدد أوراق شجرته، ولا أوراق رزنامته، ولكنه يعلم بسقوط تلك الأوراق المتتابع... العجيب إنه في خضم حماسته وسعيه ونهمه وركضه يستعجل سقوط أوراقه فلا يحسب حساباً لكر الأيام والسنين... والأعجب من هذا أي -سقوط أوراقه وسرعة نفادها- فإنه يركض ويسعى للمزيد.. ويلهث من أجل التحصيل المادي، يطارد الأيام وراء جمع المادة وكأنه سوف يعيش الأزل كله، أو أنه قد ضمن لنفسه الخلود الأبدي..لا تراه يخاطب نفسه ويقول لها قفي، كفى طلباً وكفى تعباً، آن لي أن أستريح، وأن أتأمل ذاتي والحياة من حولي..فأين أنا في هذا العالم الصاخب المرتبك العنيف؟ ولكن كثيراً من الناس يظلون مستمرين في ركظهم وسعيهم المحموم.. ولا شك أن ذلك سر من أسرار الله في خلقه فلولا وقود اللهفة هذه ربما تعطل الكون ولو جلس الناس كلهم يحسبون ويعدون ويوازنون ما بين أنفاسهم وخفقات قلوبهم وما يسعون من أجله ويطمحون إليه لتعطلت مصالح وخربت منافع.. هذا مؤكد لا ريب فيه..ولكن الإسراف والتطرف وراء شوون الحياة يفسد طمعها ولذتها، ويحولها إلى نقمة بدل ما هي نعمة..ليس الركض وراء الكسب المادي فحسب، بل وأيضا الكسب المعنوي إن صح هذا التعبير، فأصحاب الآراء المتطرفة والأفكار المتطرفة إنما يسرفون في تطرفهم ويصادرون أفكار غيرهم ويمنعونهم من التنفس بحرية والتفكير بحرية، وينغصون على نفوس الآخرين بجدلهم المتطرف الذي يمثلهم فيضعهم في الدوائر المغلقة التي يحاولون جر الناس إليها وإلا فإن الآخرين في رأيهم خارجون عن السياق الفكري الإنساني... وهذا اللون من العبث الفكري الذي يمارسه البعض إنما هو في الواقع حجر وتضييق وأنانية مسرفة في تمجيد الذات وتمجيد الأنا.. بينما الواثقون من أفكارهم إنما يطرحونها كمشاركة في المساق الفكري ولا يغالون فيها أو يحاولون إجبار الآخرين على قبولها والأخذ بها...أعود وأقول إنه في كلتا الحالتين، حالة الإسراف في الركض وراء منافع الحياة المادية، أو حالة الركض وراء منافع الحياة الفكرية بالشكل المسرف في تطرفه إنما ذلك كله نسيان أو تجاهل لمحدودية عمر الإنسان الذي عليه أن يتأمل ويفكر في جهده الذي في النهاية لن يكون متماثلاً مع عمره المتناقص المتداعي نحو النهاية...فلو فكر طالب الاستزادة المادية وقال سأعمل من أجل أن أعيش كريماً بلا منّ من أحد وسوف أكافح إلى أن أحقق هذه الغاية فقط..ولو قال المفكر أو الكاتب أو الفيلسوف: سأعمل على تحقيق ما أظنه صوابا وينفع الآخرين لن أتجاوز هذا الحد نحو المغالاة والشطط..وأخذ يفكر بعمق وهدوء ووجدان أنانيته أقصر كثيراً من زمنه وساعات تعصبه... لو اهتدى كثير من الناس إلى هذه القناعة لوصلوا إلى سدة الحكمة؛ فالحكمة هي ضابط الإيقاع الذي يوازن بين جهد الحياة وبين مسارها الزمني، فلو توفرت الحكمة في صاحب المادة لأنفق كثيراً مما يجمع ويخزن في ما ينفع نفسه وينفع الناس من حوله... ولو توفرت الحكمة في صاحب الرأي والفكر لأدرك انه يحاول إضاءة الدرب والبحث عن الحق والحقيقة التي لا يمتلكها وإنما يحاول الاهتداء إليها وانه لو بذل جهده وزمنه في هذا المعمل الفكري لقبله الناس فأوسعوا له عقولهم وقلوبهم بتقدير واحترام ... وهكذا فإن أوراق العمر تتساقط ورزنامته تنقص يوماً بعد يوم وكل يسعى حثيثاً إلى غايته، ولكن كيف ستكون هذه الغاية إذاسقطت كل الأوراق وتجرد العود؟ أظن أن شيئاً لن يبقى من ذلك كله وستذروه رياح النسيان والتجاهل ما لم يكن مصاناً محصناً بترياق الحكمة.