عندما يفسد التأويل يصبح ما هو باطل حقاً، وفساد التأويل لدينا يبدأ بالعنوان ويستمر في التفاصيل لينشأ بذلك جيل مضطرب التربية والفهم، يدرك الأمور بضدها، فيرى ما قامت به دوريات الهيئة من مطاردة الشابين وصدمهما ثلاث مرات قبل أن تحدّهما بالسقوط من أعلى جسر في طريق الملك فهد وهروبها بكل همجية لا يستحق أن يسمى منكرا لن أبدأ بالديباجة القدسية التي تسبق أي حديث عن هذا الجهاز فتداهن كتوطئة للنقد، بل سأعترف بأنني أرى أخطاء هذا الجهاز أكبر الأخطاء لأنه يمس الإنسان؛ كرامته وحريته بل ويهدد حياته بالتصفية، خاصة أنه اتخذ شعاراً عظيماً له عمق ديني مجّد النص المقدس محتواه العظيم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لكن للمفهوم شأن وللتعبير عنه شأن، وللمتشددين في تفسير جوهره الإنساني شأن يفارق بل ويعادي مدلوله فضلاً عن إدراكه على سبيل المعنى وفي سياقات التطبيق، إذاً لدينا خلل مفهومي عميق يجعلني أهجر التغرير الذي يداهن الحقيقة وأخوض غمارها المدمية التي لايمكن إلا أن ينكر أهلها مقتل شابين يافعين في مقتبل عمريهما مهما كانت الأسباب المداهنة أو المتوقفة أو المبررة للجريمة. التلاعب بالمفهوم ليس فقط حظ هذه الشعيرة العظيمة التي تهدف أول ما تهدف لتحقيق العدل الإنساني، بل كل ما يصطف لجانبها من معنى الفضيلة وشأن الحريات ومصطلح الجريمة ومفهوم الخطأ وكل المتعلقات المترسخة لمعان مفارقة أصلت كذباً في عتمة الجهل ومسيرة التجهيل وجرائم التدليس. المفارقة المفهومية بين الدال والمدلول أدت إلى خلل يمتد من قراءة الوقائع إلى التأصيل لمفهوم الهيئة" هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ولكن وإن تجاوزنا المفهوم الصامد لمعرفة المعروف ومعرفة المنكر إلى الرضوخ للأمر الواقع كمؤسسة لها مع المفهوم بعد آخر قد لايلتقي مع النص إلا من باب التسمية لاغير، إلا أننا بلا شك كمجتمع - رضخ لواقعه - نقيم المقارنات فنفقه المعروف والمنكر كما صيغ له واقعاً لا كما أريد له نصاً، فتتضاءل مطالبنا إلى شيء من التقدير لإنسانيتنا وقليل من التحكم في أنفسنا وحرياتنا، وبعض من احترام كرامتنا بل والحفاظ على دمائنا، لقد أصبحنا بمقارنة المراحل نطمح بشيء من رحمة نغذي بها فقر نفوسنا للكرامة والحرية، لذا عندما ترأس الهيئة د. عبداللطيف آل الشيخ وذكر أنه يعمل على "ترسيخ مبدأ رفعته منذ أن توليت هذا المرفق الحساس جداً:مقتضاه الأمر بالمعروف بالمعروف، والنهي عن المنكر بلا منكر" استبشر الناس بشيء من الخير، بشيء من التغيير، وبواقع جديد؛ واقع يتبرأ من قتل "الحريصي" الذي ذهبت روحه بدم بارد، بجريمة بشعة وحكم أبشع يقول:"الآلة غير قاتلة والموضع ليس بمقتل"، وكأن القتل لايعد أكثر توحشاً عندما يكون ركلاً ورفسا وضرباً عنيفا حقيراً يستهين بالكرامة، ويعجن عزتها بالدم والمخ، ويفرج عن مجرم توحش لدرجة القتل بلا آلة بل ركلاً ورفساً.. فنسمع عن الرأس عندما لايعتبر موضع قتل، جهالات وسياقات تمحو الكرامة وتنهب الإنسان حياته. الحريصي قتل أمام أسرته وفي بيته دون أي ذنب إلا التخرص والظن والتجسس والكذب، حتى الطب الجنائي أثبت خلوه من المخدرات والمسكرات التى قذفوه بها بعدما قتلوه، مع ذلك بُرئت الهيئة.. ظننا كذلك أنه "الرئيس" سيعيد الكرامة لمجتمع قذفه ذات يوم أحد أبرز رموز هذا الجهاز عندما قال "لولا الهيئة لتعبنا من لمّ اللقطاء من الشوارع"، وظننا وكل الظن إثم هنا أننا سنفهم معنى الفضيلة ومعنى الخصوصية بشكل يرتقي بكرامة الإنسان ويقيم حقه فيها. سأستشهد بحديث الرئيس عبداللطيف آل الشيخ الذي ذكره في ندوة بجريدة الرياض قبل تقريباً ثلاثة أشهر تحدث في أمور عديدة لعل أهمها سلسلة التعديلات القيادية لتعزيز العمل الميداني وضبط أدائه، ووعد بتدريب العاملين وتنمية مهاراتهم، مشيراً إلى اشتراط حصول المتقدم على درجة "البكالوريوس"، مروراً بالدورة التأهيلية المكثفة للموظف قبل نزوله الميدان. والحقيقة أن السؤال يتعدى طلب المصداقية إلى البحث عن مردود هذا التعديل على المجتمع، هل رأينا تحسناً؟! وعن تطبيق النظام: قال "الرئاسة فعّلت الإدارة القانونية وجعلتها المرجع في تنظيم أعمالها وإجراءاتها، وأوجدت فيها إدارة (لحقوق الإنسان) ترعى هذا الجانب وتوفر ضماناته في مراكز الهيئة وأعمالها، وتنظم العمل والعلاقة مع هيئات وجمعيات حقوق الإنسان، ومع المواطن". وفي 5/2/2013 في جدة ضُرب شاب ضرباً مبرحاً وأهين لأنه رفض الركوب في جمس الهيئة، ورغم شهادة أحد المشرفين على رجال الأمن بالمركز على إهانة المواطن وضربه ضرباً مبرحاً إلا أن المتهمين قدما للمحكمة مستنداً يفيد بإجازة النظام استخدام القوة بعد أخذ الإذن من رجل الضبط الجنائي وهو رئيس المركز؟! فأين حقوق الإنسان وأين تفعيل الإدارة القانونية؟! هذا مثال فقط.. ولكن كل يوم يطالعنا هذا الجهاز بتعد يرهبنا، ويجلدنا، ويخلف مأساة إنسانية تهدر حق الإنسان في العيش بحرية واستقرار وأمان؛ من قاطع طريق يعترضه، أو مجاهد تشرب فقه الوحشية يتلظى غيظا للانقضاض على قدسية كرامتنا الإلهية فيهدرها على قائمة شكوكه وملاحقاته الماراثونية، ويبدأ حوار الشك: وش تقرب لك؟، وأثبت ذلك؟ فعندما أهينت الحرية سطا العابثون.. وإنك لتدهش عندما ذكر الرئيس في الندوة أيضاً "وقريباً سنوقع عقداً مع إحدى المؤسسات القانونية التي ستستعين بكبار علماء الشريعة والقانون من أجل إعداد لائحة تنظيمية يعمل بموجبها الموظف في الميدان أو أي عضو آخر في الهيئة؛ ابتداء من الرئيس العام للهيئة وحتى آخر موظف في الرئاسة" ما يعني أن أعضاء الميدان" وهم المتسببون في كل الجرائم يعملون طوال الوقت بدون لائحة تنظيمية، فكيف بتفعيل إدارة قانونية واللائحة غير موجودة أصلاً؟! وفي مؤتمر"الأمر بالمعروف والمستجدات المعاصرة" ذكر الرئيس أن الرئاسة تسعى لضبط عملها الميداني بالأنظمة واللوائح بعيداً عن التجسس وتتبع العورات، كما ستحاسب المقصرين وتقوّم اعوجاجهم" والمؤتمر كان قبل الندوة ما يعني الازدواجية وتضارب المعلومات، ويؤكد أن اللائحة إما أنها غير موجودة أو لايتم تطبيقها وإن وجدت والعملية كلها اجتهاد محتسب متشدد يحدد المنكر والمعروف برؤيته الخاصة! وعندما أشار إلى متابعة إجراءات الضبط، والحرص على مراعاة الحقوق والتثبت، "أكد أن أكثر من (90%) من عمل الهيئة يدخل في نطاق الضبط الوقائي الذي ينتهي بالنصيحة والكلمة الطيبة والتعهد عند الحاجة، و(10%) أغلبها من الجرائم الكبيرة وتحال إلى الجهات المعنية" وهنا نطق بحقيقة العمل "ضبط وقائي"، دليل صريح بأن العمل كله يعتمد على التخرص، فالضبط الوقائي هو مشروع لمجرم مفترض، مشروع بوصلته الأصلية الظن السيئ والشك والتجسس والتحسس وتتبع العورات والدخول في النوايا الممنوع شرعاً وعقلاً وقانوناً في كل النظم والشرائع التي تحترم الإنسان وتقدس حريته الخاصة. فالقرآن نهى عن التجسس والحديث أيضاً "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"، وحديث آخر"إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم". ليسمح لي الرئيس باقتراح بسيط يغير اسم الرئاسة إلى الضبط الوقائي فهو اسم على مسمى ويعبر بدقة عن عملها الحقيقي. لقد طرح الزميل الكريم "يوسف الكويليت" سؤالاً تنبئياً نعيشه اليوم :"كيف ستتعاطى الهيئة مع المجتمع الذي أصبح أكثر انفتاحاً، وسرعة، وتفاعلاً مع الحدث، خاصة مع تقنية التواصل الاجتماعي؟" ليسمح لي الزميل بالإجابة بأنه وبكل المقومات التي ذكرت وبتسجيل الجريمة مباشرة لازال من ينكر ذلك المنكر العظيم الذي أزهقت فيه روح ناصر وسعود رحمهما الله يُتَّهم ب"النفاق" كما يقول ناصر العمر "ويُشَكُّ في عقيدته" كما صرح رئيس الهيئة. أما جزاء مخالفة التعميم الذي يحظر المطاردات فيقول عنه الرئيس"من خالف التعميم فلا شك أنه يجازى في حدود إمكاناتنا وقدراتنا بأشد ما لدي من العقوبات" وعندما تدرك أن أشد ما لدى الرئيس: "لم نفصل أحداً من موظفي الهيئة من عمله، بل تم "تحوير" الكراسي بنقل موظف من حي معين إلى حي آخر، ومن لم نجد علاجاً لمشكلته تم تحويله إلى إداري" تدرك سبب استمرار جريمة المطاردات وإزهاق الأرواح. والسؤال المبادر كيف تمنع الرئاسة أعضاءها من المطاردة وتزودهم بسيارات ذات دفع رباعي ودعامات مخصصة للمطاردات المأمن راكبها، كما هي سيارات الهيئة التي طاردت الضحيتين رحمهما الله؟! إن معاناة الشباب من الهيئة هي التي تجعل الشاب يهرب منهم ويتمرد على سلطتهم، بسبب العنف الذي يرونه، وكلما كثرت الجرائم التي يصر البعض على تسميتها أخطاء تتكرر العبارة المقدسة "جزاهم الله خيرا" وعلى مذابح القداسة وفي كنف العصمة،لاتسأل عن منزلة أهل الرضا والمغفرة، فتجهيل المجتمع لمعنى المنكر والمعروف واستباحة الفضيلة الحقيقية "فضيلة الحرية" جعل الأرواح كلاً مباحاً مستباحاً، وحق الحياة رخيصاً تافهاً لدرجة الموت. وعندما يفسد التأويل يصبح ما هو باطل حقاً، وفساد التأويل لدينا يبدأ بالعنوان ويستمر في التفاصيل لينشأ بذلك جيل مضطرب التربية والفهم، يدرك الأمور بضدها، فيرى ما قامت به دوريات الهيئة من مطاردة الشابين وصدمهما ثلاث مرات قبل أن تحدّهما بالسقوط من أعلى جسر في طريق الملك فهد وهروبها بكل همجية لا يستحق أن يسمى منكراً، وهكذا دُلِّس بالباطل على كثير من حقوقنا، فحرمنا حق الحرية والفرح والتعبير ونحن نظنها منكراً يجب الامتثال لقداسة اجتنابه، قداسة همجية امتدت لتشمل جماعات ألزم من لايتقبلها أن يجد نفسه مسجوناً داخل أسوارها المستبدة، في عبث شرعي وعبث أخلاقي. وبتأليب فساد التأويل أصبح للقداسة بعدٌ توظيفي يحمي رجل الحسبة وإن كان مجرماً محتواه؛ أن "رجل الحسبة لا يحاسب"، وأظنه لازال مسيطراً، فهل رأيتم رجل هيئة دِين في إحدى حوادث القتل منذ قضية الحريصي مروراً بحادثة مطعون العيونِ، ومطاردة تبوك التي نتج عنها وفاة شاب وفتاة حرقاً تحت شاحنة، ومطاردة المدينةالمنورة التي أزهق فيها أربع أنفس وغيرها كثير حتى حادثة بلجرشي التي قتل فيها الزوج وبترت يد زوجته وأصيب طفلاهما؟! وفي مجتمع التعتيم على الكرامة الإنسانية وثقافة القداسة الشكلانية تقلب أوضاع الجاني والضحية فتعكسهما، لذلك تنجر حتى وسائل الإعلام لتؤكد خلو المقتول من المسكر بعناوين كهذه: "أحد أقاربه: الفحص يبطل تهمة السكر"، "عائلة الفقيدين: التحاليل أثبتت خلو دمهما من الكحول"، إنها أحد تجليات فكر القداسة يصبح الضحية في موقف الدفاع كأنه جانٍ، ويأتي الجاني في موقع الضحية فتصاغ له المبررات، فهل من مبرر يستحق خطف الحياة ؟!! اليوم لاتقتصر الشهادة على المعاين للحادثة بل صارت الوسيلة تنشر الشهادة ليصبح الجميع شهوداً، التعدي بالإهانة والضرب والتجسس واقتحام البيوت والممتلكات الخاصة وصدم السيارات، كلها حوادث متكررة وبعضها موثق بالصور، واليوم نحن أمام جريمة موثقة تعتبر شبهة جنائية بتعمد الصدم والقتل، عقوبتها القصاص، إلا إن حدثت مفاجأة، وكل شيء جائز، وبانتظارنا الحكم نأمل أن يحقق نقلة نوعية في مجال الجريمة والحق والإنسان. ختاماً أقدم التعازي الحارة لوالدة ووالد وأسرة الشابين المقتولين ناصر وسعود غزاي القوس راجية أن يجبر الله مصابهم ويطيب قلوبهم المكلومة، وأعزي كل من يحترم إنسانيته ويحكّمها فينكر هذه الجريمة النكراء. ما بعد الختام: قضية الحريصي بقعة سوداء في تاريخنا، السكوت عليها جر مآسي لن تتوقف إلا في حالة واحدة؛ هي حل هذه المؤسسة وإلحاقها بجهاز الشرطة والأمن فقط..