تناولت «الرياض» في عددها الصادر أمس مسألة تزويد سوريا بصواريخ روسية فاعلة وخلفيات ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية على خلفية هذه المعطيات المتفاوتة. وليست هذه هي المرة الأولى أو الأخيرة في خلق إشكالية مفتعلة كلما بدت في الأفق عملية تقارب أو تطوير للتعاون بين روسيا وإحدى الدول العربية. والمفتعل المؤجج في مثل هذه الحالات هو بعض وسائل الإعلام الروسية ذاتها والأمر لا يعدو عن كونه توصيات محددة لتوتير الأجواء أملاً في تحقيق ضغط غير مباشر على موسكو في تعاملها مع الدول العربية وخاصة ما يتعلق بالتعاون التقني العسكري. فقد اشتعلت أزمة موهومة تكاد توحي بأن فتيلاً لبرميل بارود وشيك الانفجار في قضية معقدة قد تنسف أو تسيء إلى العلاقات الإسرائيلية الروسية. والأمر بكل بساطة يأتي في محاولة خلق أرضية مشوشة لزيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو. وقد علم مراسل (الرياض) من مصدر مطلع في وزارة الخارجية الروسية أن موسكو تنتظر حدوث انعطاف نوعي هام إبان زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى العاصمة الروسية موسكو في الفترة بين الرابع والعشرين والسابع والعشرين من يناير الحالي . وقال المصدر ان هذه الزيارة كانت قد تأجلت سابقاً لظروف موضوعية قبل ذلك لكن موسكو تولي أهمية جدية لمسارها ولتطوير التعاون في مختلف المجالات. وأضاف المصدر أنه من المنتظر أن يلتقي الرئيس السوري بشار الأسد بنظيره الروسي فلاديمير بوتن لبحث مجمل تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وخاصة ما يتعلق بالأوضاع الناشئة وسبل تفعيل التسوية في المنطقة والمسألة العراقية وآفاق التعاون الثنائي على مختلف الصعد بما في ذلك التعاون العسكري التقني ومسألة الديون السوفييتية ولكن ذلك لا يعني وجود اتفاقات محددة لتوريد صواريخ اسكندر إيه . ومن البديهي أن زيارة كهذه لا تنسجم مع التطلعات الإسرائيلية وخاصة في هذه المرحلة الحساسة بعد فوز محمود عباس وإعلانه عن استعداد الفلسطينيين لمد يد التعاون لتكريس سلام عادل مما يجعل الكرة السياسية في مرمى تل أبيب وواشنطن على حد سواء. واقع كهذا سيدفع موسكو التي عبرت عن استعدادها للمضي قدما في عملية التسوية عبر الرباعي الدولي إلى الضغط على إسرائيل انطلاقا من الظرف الموضوعي ومطالبة واشنطن بتكريس مصداقية وعودها بالعمل لتحريك مسار التسوية وبالتالي إبراز سوريا كلاعب هام في هذا المسار خاصة أن موسكو أوضحت غير مرة أن التسوية الشاملة لا يمكن أن تتحقق دون سوريا . والأمر غاية في الرهافة والحساسية فدمشق بالنسبة لواشنطن ما تزال تحت إشارة استفهام وخاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي بشأن الانسحاب من لبنان .. وبالتالي فإن زيارة كهذه تهمش إلى حد كبير من محتوى هذا القرار وتعيد إلى الأذهان مطالب دمشق في تنفيذ القرارات السابقة ذات الصلة ، إذن لا بد من زوبعة ولو في فنجان تأخذ مداها الإعلامي ثم تخبو بعد أن تتناولها وسائل الإعلام وكأنها حقيقة واقعة في أن التقارب والتعاون بين دمشقوموسكو يعني التنافر والتناحر بين موسكو وتل أبيب بل وواشنطن التي أكد الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية أن بلاده تعارض تزويد سوريا بمثل هذه الصواريخ.جاء ذلك إبان زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي إيفانوف الذي اضطر إلى نفي هذه المعلومات مع الإشارة إلى أن موسكو تستطيع بيع هذه الصواريخ لمن تشاء لأنها لا تدخل في إطار الأسلحة المحظور بيعها خارجيا . وفي حوار مكثف ل (الرياض) مع الخبير العسكري أندريه أوليتسكي أوضح بأن ما يشاع حول الصواريخ الروسية لدمشق مجرد فورة مقصودة فصواريخ اسكندر لا تدخل في المحظورات سواء من حيث مداها ( دون 300 كم )أو رأسها التفجيري (الذي لا يزيد عن 480 كغ) منوها بأن الخبراء والمهندسين السوريين أنفسهم قادرون واقعيا على تطوير سلاحهم الصاروخي الموجود وخاصة صواريخ (سكود) وجعلها قادرة على إصابة الأهداف في العمق الإسرائيلي مستشهدا بما فعله المهندسون العسكريون العراقيون سابقا خاصة أن الواقع الجغرافي المتاخم يجعل من الأهداف الإسرائيلية منالا سهلا لمثل هذه المهمات دون انتظار صواريخ روسية جديدة وأن موسكو لن ترضخ للابتزاز الإسرائيلي .. ولم يكن صدفة أن تضطر الخارجية الروسية إلى نفي وجود فتور وتوتر في العلاقات مع تل أبيب على هذه الخلفية حتى أن الناطق الرسمي باسم الخارجية الروسية ياكوفنيكو نفى أطروحات بعض وسائل الإعلام في هذا المجال مؤكدا أن العلاقات الروسية الإسرائيلية تشهد على العكس من ذلك تطورا ملحوظا وأن روسيا تعي التزاماتها الدولية وتل أبيب تدرك ذلك جيدا. ويلفت الأنظار أن صحيفة الكومرسانت واسعة الانتشار كتبت مقالة مطولة على صفحتها الأولى تناولت فيها المشكلة التي عكرت صفو العلاقات الروسية الإسرائيلية وأن الأمور كادت أن تصل تخوم القطيعة بعد أن قام رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون بطرح إخبارية سرية في اجتماع وزاري أدت إلى اتخاذ قرار باستدعاء السفير الإسرائيلي في موسكو أركادي ميل مان للتوجه إلى تل أبيب لبحث التوجهات الروسية لمد سوريا بمنظومات صواريخ «إسكندر إيه» التكتيكية عالية الدقة . وتعتمد الكومرسانت على ما نشرته صحيفة هاآرتس الإسرائيلية حول عقد جلسة للحكومة لبحث العلاقات مع روسيا حضرها وزراء القوة، وكانت سرية الجلسة مبعثاً للتعليقات وخاصة فيما يتعلق بما ذكره الرئيس بوتن في مؤتمره الصحفي الشامل حين تحدث عن السلطة في أوكرانيا وعبر عن استعداده للعمل حتى مع إدارة يوشينكو على أن لا يكون فيها من ينضوون تحت شعارات صهيونية، ورجحت الصحيفة أن يكون الأمر مقصودا من بوتن وليس مجرد زلة لسان كما أوضحت مصادر الكرملين التي نشرت توضيحاً تركز فيه على أن الرئيس كان يريد القول (معاداة السامية) .. (كانت (الرياض) أول من أشار إلى هذه المفارقة منوهة بأن الأمر ملفت للنظر وقد يكون مجرد زلة لسان وقد أصدر الكرملين إثر ذاك تعقيبا رسميا يشير إلى أن الأمر بالفعل كان مجرد زلة لسان وأن المقصود المعاداة للسامية ..لكن بعض وسائل الإعلام الروسية عادت لتتكئ تحديدا على هذه التصريحات منوهة بأن عبارة الرئيس بوتن ربما كانت مقصودة فعلا .. ومما زاد الأمر تعقيداً حسب الكومرسانت عدم فعالية نشاطات نائب وزير الخارجية الروسية ألكسندر سلطانوف في إسرائيل إبان زيارته إلى المنطقة لمراقبة الانتخابات الفلسطينية وأن الصحف الإسرائيلية تناولت احتمالات هذه الأزمة سواء في اكتشاف جواسيس جدد من الذين يحملون هويات مزدوجة أو حتى أن تكون قضية يوكوس هي السبب الخفي خاصة وأن أحد أهم مساهميها ليونيد نيفزلين المطلوب في روسيا للعدالة وهو مواطن إسرائيلي ( روسي ) يحظى بالحماية الإسرائيلية . وأيا كان الأمر فإن طرح هذه الإشكالية عشية زيارة الأسد إلى موسكو تقصد تفتيح العيون على التعاون الروسي السوري في المجال التقني العسكري حيث تزوي التصريحات الرسمية بعد حين ويكون للخيال الصحفي مجال خصب للتحدث عن هذه الاحتمالات باعتبارها خطرا على التوازن العسكري في المنطقة رغم أن الناطق الرسمي باسم الخارجية الروسية أوضح بشكل ساطع أن موسكو إبان توريد الأسلحة الروسية لمنطقة الشرق الأوسط تسترشد بالمعايير الدولية وتلتزم بتعهداتها بحيث لا يحدث خرق في التوازن العسكري وأن لا تصل الأسلحة الحساسة إلى الجماعات الإرهابية . هذه الزوبعة تعني أن إسرائيل أرادت أن تفهم الآخرين أن الدول حتى العظمى كروسيا عليها أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح إسرائيل أولا مما يذكر بالتعاون الروسي الإيراني والضغوط المشتركة الإسرائيلية الأمريكية في محاولة لوقف هذا التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية. وأيا كان الأمر فإن التصريحات الروسية تفيد بأن التعاون الروسي السوري في مجال التسليح والتقنية العسكرية أمر واقع حقيقي لن يخضع لمثل هذا الابتزاز الرخيص وأن لروسيا رؤيتها ومصالحها المنفصلة عن رغبات الآخرين .