آحادية الرأي تعني ببساطة فرض لون واحد من ألوان الطيف الفكري على أفراد مجتمع ما بحيث لا يسمح لأحد منهم بالتغريد خارج سرب ذلك اللون، هذا على الرغم من حقيقة تنوع ألوان الطيف الفكري في الحياة البشرية بكل ألوان الرأي المخالفة لبعضها أحياناً، بل والمتناقضة مع بعضها البعض أحياناً أخرى. تعدد الآراء ومن ثم الاختلاف البشري حقيقة أبدية لا مجال للقفز عليها لصالح آحادية من أي نوع كانت، وهذه الحقيقة أكدها القرآن الكريم ومن قبله الكتب السماوية بعد أن أكدتها مبادئ الاجتماع البشري في نفس اللحظة التي قرر فيها الناس الدخول في علاقة تعاقدية فيما بينهم لتأسيس المجمتع الإنساني عندما اكتشف كل واحد أن لا سبيل لديه ولا طاقة له على العيش بانفراد. من تلك اللحظة التي قرر فيها الإنسان «بصفته كائناً فرداً عاقلاً» الدخول في مسؤولية العقد الاجتماعي من طرفه الأول الخاص بتأسيس المجتمع البشري أدرك أن الحرية المطلقة الممنوحة له سابقاً والتي تعتمد على مبدأ «عش ودع غيرك يموت» لن تكون متاحة له إلا بقدر ما تعطي الآخرين الذي دخل معهم في حلف اجتماعي أبدي مقدس ما يحتاجونه من قوام العيش وضمانة البقاء، ومن ثم فقد ترتب على تلك الحقيقة (حقيقة تنازل الإنسان عن حريته المطلقة في التصرف بمكونات البقاء) أن أدرك الإنسان أن ليس ثمة من وسيلة يستطيع بها فرض رأيه في التصرف في موارد الأرض المحدودة على من يشاركونه العيش على هذه الأرض، بحيث احتاج الأمر إلى نوع من المشاركة في الرأي في كيفية الاستفادة من موارد البقاء المحدودة بطبيعتها بما يضمن الحد الأدني منها لكل عضو في ذلك المجتمع الإنساني الجديد لبقائه حياً. بنفس الوقت ووفق نفس الآلية، اكتشف الإنسان بصفته عضواً في مجتمع تحكمه اتفاقية أُصْطُلح على تسميتها ب«العقد الاجتماعي» في جانبها الأول (الجانب الثاني أو الطرف الثاني من هذا العقد هو نقل سلطة التصرف في إدارة هذا المجتمع إلى من يختارونه من بينهم) أن لكل عضو يماثله ويشاركه عضوية المجتمع أراؤه ومعتقداته النابعة من رؤيته الخاصة للحياة و كيفية الخلاص الروحي وما يميل إليه ويفضله بالإضافة إلى تطبعه بحب التفرد والحرية التي وافق على التنازل على جزءٍ منها مرغماً لتنظيم حياته والمحافظة على حريته ذاتها وفي ذلك تكمن المفارقة !! مفارقة أن يتنازل الإنسان عن جزءٍ من حريته للمحافظة على كنه وأساس الحرية نفسها، ومنها وعلى رأسها بالطبع آراؤه ومعتقداته الخاصة التي لا يستطيع أحد مصادرتها أو توحيدها لصالح رأي وحيد مفروض، وحتى مع افتراض استطاعة قوة «ما» سياسية كانت أو اجتماعية فرض رأي معين بإجبار الآخرين على تمثله والامتثال له فلن تكون نتيجة ذلك الإجبار إلا التزاماً ظاهرياً قهرياً لا يلبث أن يتفلت لحظة انفراج أزمته ربما بشكل أكبر وأكثر حدة من ناحية التماهي مع الآراء والمعتقدات الخاصة التي كُبِت لحظة تسلط الآحادية على ذلك المجتمع الذي تعيش فيه. أحداث التاريخ في القديم والجديد شاهدة على حتمية خسارة المراهنة على قسر الجموع على رأي واحد، ذلك أن قسراً كهذا إنما يشكل قفزاً على جِبِّلة خِلقية إنسانية، ومن ثم فلا سبيل لتمييعها وإنهائها لصالح لون واحد مفروض إلا بقدر ما سيكون الأمر فيه يومئذٍ تَقّيِّةً لا تلبث معها تلك الجموع المقسورة أن تعود إلى الأصل الذي اُنتزعت منه متى ما واتتها الفرصة، سيكون الشعور ومن ثم اللاشعور بالتبع جاهزين لتخزين ما يمكن أن يطلق عليه «التعبئة الذهنية المستمرة» للمحافظة على التراث أو المعتقد أو الرأي أو العرق الذي اجتاحته أيدي الآحادية يوماً ما، ومن خلال هذه التعبئة المستمرة سيتحول الأمر ربما من كونه رأياً مخالفاً ليس إلا، إلى أن يكون معتقداً قلبياً يخامر القلب ويغطيه حتى عن نقائص ذلك الرأي، ليتحول إلى عقيدة صلبة لا تزيدها الآحادية إلا رسوخاً وثباتاً واقتناعاً كاملاً باشتمالها على الحقيقة المطلقة تسري في ثناياها، والاعتقاد من ثم بأن القسرية التي يواجهها أتباعها ليست إلا نوعاً من الامتحان والتمحيص ودفع استحقاقات يوم الظهورالأكبر، ظهور الحق على الباطل، وانتصار الفرقة الناجية على الفرق الهالكة التي ما فتئت تنصب المؤامرات لوأد قمقم الحقيقة وصراطها المستقيم مخافة أن يظهر أتباعها على الناس ليأخذوا بحجزهم عن النار!!!! . ولأن الاختلاف أصل أصيل في حياة البشر لا فكاك منه ولا مفر، فقد جاءت الشرائع السماوية وعلى رأسها الإسلام بإقرار هذه الجبِّلة البشرية وتأسيس ما يلزم لرعايتها في حياة الناس دعماً للسلم الاجتماعي بصفته مطلباً أساسياً من مطالب الإسلام من خلال تنظيمه للحياة الاجتماعية، لقد اشتمل القرآن الكريم على عدة آيات محكمات تبرز أصالة الاختلاف وأنه باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وعلى ذلك تمت كلمته وحقت نعمته، منها قوله تعالى في الآية التاسعة عشرة من سورة يونس {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} ومفهوم هذه الآية الكريمة أن الناس اختلفوا بعد ما كانوا أمة واحدة، ولو لا أن الله تعالى قضى بأبدية الخلاف بينهم بكلمة سبقت منه لقضى بينهم سبحانه في مسائل الخلاف ولجعلهم أمة واحدة لا يختلفون، ولكن سَبْقَ كلمته في إقرار مبدأ الاختلاف بين خلقه أدى إلى أن يتأبد ويبقى إلى أن تقوم الساعة، وكذلك قوله تعالى في الآيتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة بعد المائة من سورة هود {ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك... الآية} وهي شبيهة بالآية التي قبلها من حيث إرادة الله تعالى لأبدية الخلاف بكلمة سبقت منه، وبحيث أنه لو شاء لقضى على الخلاف وصارالناس على قلب رجل واحد، وما يفرق هذه الآية عن ما سبقها أنها عبرت عن استمرار الخلاف بالمضارع المستمر من الحاضر للمستقبل (لا يزالون) مما يؤصل لأبدية الخلاف وديمومته وأنه الأصل وأن الاتفاق على رأي واحد إن حصل فهو استناءٌ من الأصل، اما في الآية العاشرة من سورة الشورى فيقول تعالى فيها {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فأثبت الاختلاف هنا بالنكرة بقوله (من شيء) مما يجعل الاختلاف منصباً على كل شيء ومتصوراً على أي شيء، سواءً في مجالات الدين أو الدنيا، وإن مما يعجب منه المرء غاية العجب بعد كل هذا التأصيل القرآني لديمومة الاختلاف وأصالته في حياة الناس أن يعمد نفر إلى إصدار بيان ينعون فيه على مخالفيهم رأيهم المخالف في مسألة فرعية اجتماعية هي قيادة المرأة للسيارة، بحيث لم يكتف ذلك البيان بنقد رأيهم فقط أوحتى لومهم على ما أبدوه من آراء تخالف ما ذهب إليه أولئك، وإنما وصمهم بأوصاف هي أبعد ما تكون عن الإيمان بحق المخالف في إبداء رأيه في أمر اجتماعي فرعي دعك من الأمور الأصلية الشرعية، فقد اعتمد البيان لغة التقسيم الثنائي الحاد بين فريقي هذا الأمر (أمر قيادة المرأة للسيارة) «العلماء وطلبة العلم» مقابل أعداء الإسلام من دعاة التغريب والمنافقين والمبطلين، وتلك لعمري وصفة إقصائية حادة أسست ولا زالت تؤسس للفكر العنيف الذي يقتات على نفي الآخر ورميه بالسوء لمجرد الاختلاف معه. [email protected]