الشاعر الجاهلي (امرؤ القيس) استنجد بملك الروم لينصره ضد قومه ويدعمه في سعيه للثأر لأبيه، وقال مخاطبا رفيقه وهما في دربهما لملك الروم :- بَكى صَاحِبي لمّا رأى الدَّرْبَ دُونه وأيقنَ أنا لاحقانِ بقيصرا فَقُلتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّمَا نحاوِلُ مُلْكاً أوْ نُموتَ فَنُعْذَرَا التاريخ ينقل لنا الكثير من الأخبار ذات الظروف الحربية المشابهة والتي يضطر بها الضعيف الاستنجاد بالقوي المتفوق عسكريا وحضاريا، إما لحقن الدماء أو النصر أو.. استعادة ملك مضاع كما هي حال امرئ القيس. قال الأمير الأندلسي المعتمد بن عباد (راعي الأبل ولا راعي الخنازير) وكان المعتمد وقتها يخوض مفاوضات شرسة مع الفرنجة على أسوار مدينتي اشبيلية وقرطبة، إلى أن توقفت هذه المفاوضات بعد أن أرسل له قائد الفرنجة رسالة يطلب منه أن يسمح لزوجته أن تلد في (مسجد قرطبة) كنوع من المهانة المبطنة، فقام المعتمد بقتل حامل الرسالة، لوقف المفاوضات، واستنجد بالأمير البربري (يوسف بن تاشفين) زعيم المرابطين، وعندما حذره وزراؤه من يوسف بن تاشفين لقوته وسطوته وعلو شأنه بين قومه، قال مقولته السابقة حول الإبل والخنازير. وما يحدث في المشهد العربي حولنا الآن يبدو أنه صفحة أخرى من التاريخ التي نبحث بها عن الحلول داخل غمد القوي، بينما نحن مكبلون بالعجز والتقاعس عن حسم أمور البيت العربي الداخلية. كان مسكني في مدينة لندن مجاورا لحديقة (القروفنر) وقريبا من السفارة الأمريكية بالشكل الذي يجعلني أرى بوضوح ماذا يحدث حولها، فخارج أسوار الحماية المكهربة المشددة، تصطف مع فجة الفجر طوابير الراغبين بالحصول على فيزا دخول للولايات المتحدة !! من طلاب العلم والباحثين عن عمل والحالمين بحياة الرفاه والعدالة والحلم الأمريكي، وفي آخر النهار تبدأ المظاهرات تطوف حول السفارة نفسها، يحركها رافضون للسياسات العسكرية للولايات المتحدة، ومناهضين لحلمها الأمبريالي، ومن ضمنهم مسيرات عربية تدين الصمت الأمريكي على الهولوكست الكيماوي الذي مارسه النظام السوري ضد شعبه، رافعين صور الضحايا في مجزرة ريف دمشق (هذا قبل أن تقرر الولاياتالمتحدة التدخل في سوريا) . متظاهرون غاضبون ولكن قد يكونون هم أنفسهم طالبي الدخول للولايات المتحدة، وسائل إعلام وأبواق ولافتات، وموظفو السفارة يرمقون الحشود من خلف النوافذ بلا مبالاة .. والنسر الأمريكي فاردا أجنحته فوق قمة السفارة يتابع المشهد بعجرفة وكبرياء، العلم الأمريكي يخفق حول أجنحته .. علم الإمبراطورية العظمى .. ومن تقوم بدور البوليس العالمي .. صاحبة الحل والعقد والتي إذا شاءت تحججت بمجلس الأمن .. وإذا شاءت أقصته .. سفارة الإمبراطورية باتت محجة لشعوب الأرض المغلوبة .. اصطفاف صباح طويل يحلم بالدخول لها.. وفي المساء يعودون ليدينوها ويشتموا قادتها وسياساتها.. وكما قال أبو الطيب وا حرّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم فلسفة الجدلية التاريخية تخبرنا بأنه لطالما كان الداء هو الدواء .. والمشكلة والحل في حقيبة واحدة، ومشهد الدول وهي تحبس أنفاسها تترقب الضربة الدولية فوق سورية، حتما لن يكون صفحة مضيئة في تاريخنا.. لكنه قد يكون بعضاً من السم الذي لابد من تجرعه ترياقاً وحقناً لنزيف دماء استمر عامين ونصفاً، ولم نستطع فعل شيء حياله..