كيف نستطيع أن نؤمن مستقبل أطفال التوحد إذا فقدوا من يعيلهم ويحميهم؟! فكرة الأوقاف كمشروع يتكفل بأطفال التوحد تعليماً وتأهيلاً وإيواءً تعد أفضل الأفكار التي طبقتها بعض الدول للمعاناة وجه مشرق، كونها تمنح الإنسان شرف تأمل إنسانيته وتلمس شرفات روحه، حتى إذا نفذ من معاناته أدرك أنه عثر على أول الطريق المفضي إلى ذاته / خيريته، ليندمج في عالم العطاء المستضيء ببركة الإنسان.. نموذج فذ للعطاء يتمثل أمامي وأنا أفكر في معنى المعاناة ومقدار نصيبنا منها، فأتلمس الهوة العميقة لإدراكنا ولذاتيتنا اللحوحة بأنانيتها وسطحيتها.. نموذج تسامق سمواً عندما وهب نفسه للخير، فأقر فؤاد العطاء.. وضمير البذل.. وهبة المعاناة. إنها سمو الأميرة "سميرة الفرحان" مؤسسة ورئيسة جمعية أسر التوحد الخيرية، "التوحد" الذي يمر على مسماه الغالبية منا وهم يكررون عبارات الحمد والشكر أن نجوا منه، أما هي فقد صنعت بالحمد مستقراً لإنسانيتها فصارت أماً لأطفال الجمعية وأسرهم، تسعى بجهدها وبذلها لتقدم مايمكنها لفئة ابتليت بمرض لا ذنب لها فيه.. أما اختيارها لخدمة أسر التوحد، فلكون أكثر من نصف البرنامج المخصص لأطفال التوحد يتركز على دور الأسرة، فجاءت الجمعية للتدريب وتحسين الأسر وتقديم خدمات معنوية وتدريبية لخلق بيئة مناسبة للتعامل مع أبنائها من ذوي التوحد في المنزل. وإضافة للدعم النفسي والاجتماعي للأهالي تقدم دعماً لقضاياهم الخاصة بحالات التوحد في الدوائر الحكومية، بالإضافة إلى نشر الوعي بين أفراد المجتمع عن اضطراب التوحد والعمل مع الجهات المختصة لإيجاد أنشطة وبرامج رياضية وترفيهية لهذه الفئة، وتحرص على تبادل الخبرات مع المراكز والقطاعات المتخصصة داخل المملكة وخارجها. كما وتعمل على توعية الأسر بضرورة التخلص من الخجل بسبب الإعاقات الذهنية لأبنائها، وتؤكد على ضرورة تخلصهم من المشاعر السلبية، فطفل التوحد ممكن تدريبه وتأهيله، وما يظهر عليه من سلوكيات غير مرغوب فيها ليس ذنبه فهو مريض، والمريض له حق الخدمة والعناية والرعاية. ضمن عنايتها بالتوعية تؤكد على الاهتمام بالدوائر الثلاث المحيطة بالطفل التوحدي: الأسرة، والجار أو القريب، والمجتمع، وتعد مسؤوليتهم واجباً وطنياً يفترض أن تركز عليه وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية والتربية والتعليم وتعمل على تعزيز أدوارها مجتمعة. تتوقف مطالبها منذ 15 عاماً على البدء الفعلي بالمشروع الوطني للتوحد، وإيجاد وقف خيري للجمعيات المساندة يخدم هذه الفئة الغالية بشكل دائم.. ولتصور حجم المعاناة علينا أن نعلم أن مرض التوحد أسرع مرض إعاقة انتشاراً في العالم، تجاوزت نسبة المصابين به أكثر من المصابين بالسرطان أو الإيدز، ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة له في المملكة إلا أن المؤشرات تشير إلى مايقارب 300 ألف حالة والعدد في تزايد، يوازيه نقص شديد في الخدمات المقدمة، وشح في مراكز التشخيص والتأهيل، فضلاً عن العلاج والمتابعة، وتتفاقم الحالات المصابة به بسبب عدم الكشف المبكر، وندرة برامج التدريب والتأهيل والتوعية، إضافة إلى تكلفة رعاية الطفل التوحدي التي تقارب 40 ألف ريال سنوياً، يسمى مرض "الإعاقة الغامضة" لعدم التوصل لحقيقة أسبابه، ولاتوجد إلى الآن سبل طبية ناجعة لعلاجه، لكن التشخيص المبكر يساعد على تحسين الحالات بشكل ملموس، تشمل أعراضه خللاً في تطور قدرات التواصل لدى الطفل بشكل طبيعي وعلاقته بمحيطه الاجتماعي وتأخر كبير في المهارات اللغوية والاجتماعية.. وخجل الأهالي من التصريح به يسبب عائقاً كبيراً أمام السيطرة عليه ويؤدي إلى عدم دقة الإحصائيات المتوفرة، خاصة في الأسر محدودة الدخل التي تعاني الأمرين؛ وجود طفل توحدي يحتاج لعناية وتأهيل سلوكي ونفسي، وعجز مادي يحول دون تلقي العناية المطلوبة. أغلب الأسر تتلقى العلاج في الأردن والكويت والبحرين لعدم توفر مراكز تأهيل متخصصة في المملكة، مما يضطر بعض المواطنين للهجرة والعيش في إحدى الدول التي تؤدي حقوق هذه الفئة وتوفر لها أفضل المراكز لرعايتها. زرت الجمعية وسعدت بمشاركة أطفال التوحد وأسرهم فرحتهم في يوم التوحد العالمي، وتلمست عن قرب شدة المعاناة بسبب نقص الكفاءات البشرية وقلة الدعم المادي، واطلعت على مخاطبات الأميرة للجهات المسؤولة منذ صدور الأمر السامي عام 1419ه بالموافقة على المشروع الوطني للتعامل مع التوحد واضطرابات النمو، والمعتمد بقرار مجلس الوزراء رقم 227 في 13/9/1423، المتضمن تحديد مهمات القطاعات الحكومية ذات العلاقة؛ وزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الصحة، والتربية والتعليم،.. ولم يتم تفعيله حتى اليوم..فأين مجلس الشورى عن متابعة تفعيل الأمر السامي ومساءلة الجهات عن تعطيل القرار وإجبارهم على البدء بتنفيذه؟! سؤال يدور في حلقة لامتناهية! لعل القارئ الكريم لا يصدق كم الخطابات التي اطلعت عليها، وجهتها الأميرة لتلك الجهات تطالبهم بتنفيذ القرار وتذكرهم بمسؤوليات وزاراتهم، إلى خطابات الأمين العام المساعد لمجلس الشورى، أحدها يطالب فيه وزارة الشؤون الاجتماعية تنفيذ ما قرره النظام الوطني للتوحد المعتمد من المقام السامي، ك: * الترخيص لمراكز التوحد في القطاع الخاص مؤهلة بالمباني والخدمات المساندة للمركز. * صرف بطاقة تعريفية لمصاب التوحد لتسهيل أمره في التعامل مع الدوائر الحكومية والقطاع الخاص وتمكين المصاب من الحركة بسهولة داخل المملكة وغيرها. وأخرى لوزير الصحة ووزير التربية والتعليم يطالبهما بزيادة عدد المراكز المتخصصة للتشخيص والمتابعة الطبية والنفسية والسلوكية لتشمل كافة مناطق المملكة، وبطاقات استيعابية تتناسب مع الأعداد المتزايدة لحالات التوحد، والعمل على توفير الكوادر البشرية المتخصصة للتأهيل والعلاج والتعليم.. وغيرها من الخدمات الأخرى.. الأمين العام المساعد لمجلس الشورى ختم خطاباته للجهات الثلاث بجملة: " لذا آمل نظركم في توجيه المعنيين بسرعة تنفيذ التوجيه السامي بخصوص المشروع الوطني وإعلان ذلك، حتى يعلم جميع المعنيين والأسر والأفراد، وذلك للمساهمة في الحد من معاناتهم وخدمة المصابين بتأهيلهم وتعلمهم ليكونوا أفراداً منتجين في مجتمعهم" ثم أضاف: "شاكراً لكم كريم تجاوبكم" ومع أنهم لم يسرعوا أو حتى يبطئوا في تنفيذ القرار، فتاريخ الخطابات المرسلة 19/4/ 1430 ، إلا أن الشكر وافاهم لكريم تجاوبهم، مع أن المشروع مازال في طي الغياب والمجهول إلى اليوم، فأي كريم تجاوب تجاوز أربع سنوات؟!! الأمين العام لمجلس الشورى أرسل أيضاً خطاباً لرئيس مجلس الشورى يطالبه بحث الجهات المعنية لتنفيذ المشروع المعتمد، فأي حلقة أم أي فراغ يدور فيه هذا المشروع، ومن سيوقف دورانه؟ كيما نستطيع أن نحدد من تقع عليه مسؤولية تعطيل قرار وزاري لمشروع وطني لفئة في أشد وألح حاجات الرعاية الإنسانية! في توصية للجنة الصحية بمجلس الشورى تقول ( على وزارة الصحة توفير مراكز متقدمة في كل مناطق المملكة بإنشاء 13 مركزا في كل منطقة إدارية لتشخيص حالات التوحد بأطيافه المختلفة بما يحقق التدخل المبكر ويوفر العلاج والتأهيل الملائم للمصابين) السؤال: هل يظن مجلس الشورى الموقر أن الوزارة ستهتم بالتوصية مادام لم يلزمها بتنفيذ قرار مجلس الوزراء؟!! السؤال الوجيه لحالة التعطيل المستمر: من الجهة التي تلزم الوزارة بالتنفيذ؟! نتذكر ميزانية 2013 وتخصيص 100 مليار ريال للخدمات الصحية، فأين حق المراكز المتقدمة لعلاج المصابين بالتوحد وتأهيلهم منها ياوزير الصحة ؟ التوحديون لهم حقوق إنسانية لم تنفذ، والدولة مسؤولة أن توفر لهم دورًا لرعايتهم رعاية شاملة تمثل حق إيوائهم، وتدريبهم وتعليمهم، لأنهم في حاجة لرعاية تامة مدى حياتهم.. لكننا في خضم الدائرة المغلقة لازلنا ندور وندور بلا تحديد وجهة مسؤولة، ولا تلقى إجابة شافية. بتغيير اتجاه مؤشر البوصلة بغية قراءة أعمق لإدراك أبعاد تعطيل المشروع، تواجهنا ثقافة تحمل إرثا غنياً من قيم التكافل والتراحم والتواد اعتماداً على منطلقات دينية واجتماعية، لكنها "تأزلت" بقناعات تؤدي العمل الخيري مجرداً عن أصله وكيانه؛ "الإنسان"، إلى معانٍ مغادرة لآفاق لاتعين حالاً، ولا ترفع بلوى، ولا تفرج ضيقاً أو تنفس كربا، ولو قمنا فقط بمقارنة بسيطة لخدمة هذه الفئة الإنسانية"أطفال التوحد"، والسعي لتوفير مراكز تكلف مئات الملايين جعلت أوقافاً لنشاطات خيرية لاتمس صميم حاجة الانسان، لأدركنا معنى العمل الخيري وتأبيده مفصولاً عن الإنسان، الإنسان؛ المشروع الحي الجدير بكل بذل وعطاء.. بقي سؤال يسطر أهميته لإنسان التوحد وأسرته: كيف نستطيع أن نساعدهم ليعيشوا حياة طبيعية قدر الإمكان؟ وسؤال أهم: كيف نستطيع أن نؤمن مستقبل أطفال التوحد إذا فقدوا من يعيلهم ويحميهم؟! فكرة الأوقاف كمشروع يتكفل بأطفال التوحد تعليماً وتأهيلاً وإيواءً تعد أفضل الأفكار التي طبقتها بعض الدول كالكويت، لذا تناشد عرّابة المشروع الوطني للتوحد الأميرة سميرة الدولة بتنفيذ فكرة الوقف كيما تستطيع الجمعيات الخيرية القيام بواجباتها، بجانب انتظار تحقق حلم المشروع الوطني.