لم تشر المصادر الأدبيّة والتاريخيّة العربية إلى السيَر الشعبيّة إلا باقتضاب في سياق الذمّ، والانتقاص، والازدراء، فأحاط الغموض نشأتها الشفوية الأولى من كلّ جانب. ولم يقدّم التدوين المتأخر لمتونها الكبيرة شيئًا يفيد في رسم تاريخ تطور هذا النوع السرديّ. على أن جذورها المتداولة شفويًّا تعود إلى زمن أقدم بكثير من تدوينها المتأخر، ولا يمكن حصر أسباب ظهورها إلاَّ على سبيل التأويل الثقافيّ، لكونها استدعت أشهر فرسان العرب ليكونوا أبطالا لعصورهم، والعصور اللاحقة، فجعل ذلك بعض الباحثين يعللون ظهورها على أنه استحضار الماضي المجيد، لمواجهة عصر انحسر فيه الدور العربيّ-الإسلاميّ. مثّلت السيَر الشعبيّة العربية لبّ مرويّات العامّة، وهي من نتاج المخيال الشفوي، وقد تشكّلت في منأى عن الثقافة المتعالية التي تعنى، إجمالاً، بأخبار الخاصّة، وشؤونها، وذلك أفضى إلى عدم العناية بهذه المرويّات من نواحي التدوين والوصف، فالتواريخ الأدبيّة الرسميّة تنتقص العامّة وآدابها، وتراها نفثات مشوّشة لأغلبيّة جاهلة برهانات خاسرة. وقد ذهب "ستيتكيفيّتش" إلى أنها عانت إدانة عقائديّة لغويّة مبكرة، ترجمت إلى إدانة أيديولوجيّة من لدن المؤسّسة المتزمّتة في كتابة تاريخ الأدب العربيّ الكلاسيكيّ، فلأسباب تتصل بالشفرة الثقافيّة جرى اعتبارها نصوصًا غير أدبيّة، إذ اختارت هذه المؤسّسة، وهي بناء تاريخيّ عربيّ خالص، أن تستبعد عن همومها النقديّة المشرّعة، جميع المظاهر الأدبيّة "الشعبيّة"، أي ذلك النوع من النصوص الذي لا يندرج في شفرة الأنواع الشكليّة عند العرب، ولا يخضع للبناء الأيديولوجيّ للغة الأدبيّة. أرجع آندريه ميكال، المستشرق الدؤوب، والمتبحّر بالجغرافيا البشريّة لدار الإسلام، ظهور السيَر الشعبيّة إلى "تعلّق الجماعة الإسلاميّة بذكرياتها". وذلك نوع من الحنين الهوسيّ بمجد غابر مثّله الفرسان الأوائل، مثل: عنترة بن شدّاد، وسيف بن ذي يزن، وأبي زيد الهلاليّ، وغيرهم، ثم الحنين المشفوع بالألم والحسرة على حقبة القوة التي عرفتها الجماعة الإسلاميّة في عصور ازدهار قوتها، وبانحسار فكرة البطولة، وبداية انهيار دار الإسلام، اختل التوازن النفسيّ للجماعة الإسلاميّة المشبعة بأخبار الأبطال، فاختلق مخيالها الجمعيّ بطولات وهميّة أُسندت إلى أبطال مودعين في بطون التاريخ، إذ عقدت لهم بإجماع الأدوار الغائبة في الواقع. والحال هذه، فالمجتمعات المقهورة تتوغل في قارة التخيّلات الغامضة لتستعيد مجدًا غابرًا، وعبر المرويّات السرديّة البطولية، تقوم بتأكيد هويّتها ورغباتها، فتضخّم روايتها المتخيّلة بالسرد، وتعتصم بحبكة تنعقد حولها الأحداث البطوليّة. ولا يخفى أن المهامّ التي يقوم بها معظم أبطال السيَر الشعبيّة تتمركز حول توسيع دار الإسلام، أو التدشين لظهور الرسالة الإسلاميّة، مع أنّ كثيرًا من أولئك الأبطال عاشوا قبل الإسلام، وماتوا، كما يقال، ميتة جاهليّة، لكنّ هذه الحقيقة الجزئية لا تبطل رغبة العامّة المنكفئة على نفسها في إضفاء الأدوار البطوليّة الكبرى لهم، وهي تهدف، بمجملها، إلى مكافحة الأخطار القادمة من دار الحرب؛ فأبطال السيَر الشعبيّة يوفّرون حماية رمزيّة متخيّلة لمجموعات ضخمة من المسلمين الذين صار حاضرهم يتهدّد ماضيهم بقوة، فارتموا بصورة كاملة في ذلك الماضي، يستعيدونه، ويبعثون أبطاله، ويرسمون لأفكاره طابع الخلود، ففكرة التأصيل التخيّليّة تنبثق من الإحساس بهشاشة الحاضر. لبّت السيَر الشعبيّة الحاجة الماسّة للتوازن الجوانيّ عند الجماعة الإسلاميّة، وبها تخطّت الإخفاقات النفسيّة، فاستجابت لتوهّمات القوّة الزائفة، ولهذا ازدهرت في الحقب المعتمة من التاريخ العربيّ-الإسلاميّ، وتمدّدت دلالاتها للوفاء بحاجات التلقّي التعويضيّة عند عموم المسلمين. وأرجع عبد الحميد يونس ظهور السير الشعبية إلى اهتزاز "الوجدان العربيّ" بسبب الحروب الصليبيّة، ممّا دفعه إلى "أن يعتصم بعصر البطولة" الذي مثله أبطال لهم شأن في قلب ذلك الوجدان. وذهب فاروق خورشيد إلى أن ظهورها يعود إلى حاجة العرب لشكل إسلاميّ للتعبير الأدبيّ يبعدهم عن الارتباط بالأشكال الأدبيّة المنحدرة من الأسطورة الوثنيّة القديمة. فيما رأى عادل البياتي أنها تطوير لمرويّات أيام العرب في الجاهليّة. أمّا أحمد زكي فوجدها قد تخلّقت في خطّ موازٍ للمغازي، واستقطب كلّ ما رفضه المؤرخون واللغويّون من الأيام الأصل، ومن تواريخ الأنساب، وأسفار التكوين. وفّرَ جمعُ المرويّات في عصر التدوين مادّة سرديّة ضخمة جرى تداولها في الحواضر الإسلاميّة، ونشطت الرواية الشفويّة لمأثورات الماضي، وازدهرت، وشكّلت بمرور الوقت رأس المال الرمزيّ لمجتمعات تناقصت فيها شروط الحياة الطبيعيّة، وتراجعت أدوارها السياسية والثقافية، وانحسرت تطلعاتها الكبرى، وراح المجال الذي تحتمي به من قبل يتفتّت، فدار الإسلام في تراجع، والقوى الكافرة (طبقًا للتعريف الدينيّ السائد آنذاك للمغايرين عقائديًّا) تغزو تلك الدار الهشّة، وتمزّقها، وتقتطع أجزاءً كثيرة منها، فيما يتناحر أبناؤها، طمعًا في مكاسب دنيويّة عابرة، وبسبب هذا يقوم العامّة بتضخيم رموز القيم الموروثة، ويغذّون حاضرهم بمزيج متداخل من الرغبات والتخيّلات والآمال، كمكافئ نفسيّ لحالة الانهيار التي يحسّون بها على نحو فطريّ وغير معلّل؛ فتتعالى في أوساطهم المقاومة الرمزيّة تنعشها بطولات حبيسة في المرويّات السرديّة. ظهرت المرويّات السيريّة لتلبي الحاجة الكامنة في وسط يتمركز مخياله حول العقيدة والعرق، وهذا يفسّر اقتصارها على أبطال عرب، وعلى أدوار دينيّة يقومون بها، وحينما يتعارض ذلك، يتمّ اختلاق انتساب عربيّ، مهما كان الأمر، لتخطّي التناقض المبدئيّ، كما ظهر في حالة "الظاهر بيبرس"، وحينما يكون البطل جاهليًّا، كما هو الأمر في حالة سيف بن ذي يزن وعنترة، فهما يدشّنان لظهور الإسلام، ويعمّران لأكثر من ألف سنة، ويكرّسان حياتهما للدفاع عن الإسلام، ويكتسحان "دار الكفر" في كلّ مكان على رؤوس جيوش جرّارة لا تعرف الهزيمة. استثمرت السيَر الشعبيّة العربية الصور الخياليّة المضخّمة للأبطال العظام في التاريخ العربيّ- الإسلاميّ بأسلوب ملحميّ ارتقى بها إلى رفيعة عالية من البطولة الجماعيّة، وأولاها مسؤولية الدفاع عن دار الإسلام، بل ونشره في أصقاع الأرض، لأن المخيال الشفويّ للعامّة يتصف بالجموح، والانفتاح على الأدوار البطوليّة الكبرى؛ فالمهمّشون يستعيدون أدوارهم الغائبة بتضخيم التخيّلات السرديّة، وانتخاب الرموز البطوليّة في التاريخ، وشحنها برغباتهم، وإخراجها من مجالها الخاصّ، ثم دفعها إلى المجال العامّ. والحال هذه، فقد استجابت السيَر الشعبيّة لتلك الرغبات المُحجّمة التي انفلتت في متخيّلاتها، فتمدّدت أحداثها، وحركة أبطالها، في الزمان والمكان، بما لا نجد له نظيرًا في المرويّات السردية الأخرى.