كانت صحراء العرب قديماً مهلكة! وكانوا يسمونها مفازة! كما يسمون اللديغ (السليم)! من باب التخفيف على النفس من أثر الخوف.. إن نفع التخفيف!.. صحراء العرب شاسعة.. واسعة.. جرداء لا نبت فيها.. جداء لا ماء فيها.. لا يوجد في معظمها - قديماً - غير السراب.. والذئاب.. حتى الذئاب (تنحاش) من كثير من مجاهلها!.. لا يستطيع الذئبُ أن يعيش في صحراء لا حياةَ فيها ولا أحياء!.. ولا حتى الغراب!.. كانت معظم صحراء العرب قديماً يباباً في يباب..! وخراباً في خراب!.. هجرها البشر ولم ينبت فيها الشجر وهرب منها الطير والوحش وعوت فيها الرياح وحيدة! كانت أكثر صحراء العرب في الزمن القديم خالية.. خاوية.. موحشة.. مخيفة.. مهلِكة.. ينطبق عليها قول الشاعر: مهالكُ لم يصحب بها الذئبُ نَفْسَهُ ولا حملت فيها الغرابَ قوادمُه حتى الغراب - غراب البين - لا تحمله جناحاه في صحراء صامتة هامدة ليس فيها نسمة حياة واحدة! وحتى الذئب - وهو ذئب - لا يجرؤ على الحياة فيها!.. ولا يستطيع.. ولا يصحب نفسه في تلك المهلكة!.. وإن كان معه قطيع من الذئاب فسرعان ما تهرب جميعاً من صحراء جرداء جداء لا حياة فيها ولا نماء، لا أحياء حولها ولا ماء! يقول شاعرنا المبدع ابن لعبون: مع صحصح كنّه قفا الترس مقلوب يفرح به الجني على فقده الذيب!! تأخذ به الشرية زمانين برتوب وعامين تتسجع ساهيه عقب ترتيب فالحنظلة (الشرية) إذا ألقيت في هذه الصحراء القفر الشاسعة تأخذ عامين تقفز قفزاً مع صفير الرياح!! وعامين تسجع ساهيه عقب ترتيب!! حولين والرياح تدمدم بها على الأرض وقد جفت وعادت كصخرة صغيرة ميتة تدمدم بها الرياح مع صخور القفر المخيف الذي يفرح الجني فيه بفقده الذئب!! زعموا أن الجني يخاف من الذئب! وهو في هذا الفقر فرحان! عليه الأمان! مستحيل أن يعيش في هذه المهلكة ذئب!! لكن لا أدري كيف يعيش فيها الجني؟!.. ولكنه (جنِّي)!! وابن لعبون إذ وصف الصحراء بالترس، وهو المِجَنّ آلة الحرب الواقية المدورة تتلقى الرماح، يذكرني بوصف أعرابي لصحراء مر بها فقال: (أرض كالترس ما تمشي فيها الرياح إلاَّ عابرات سبيل ،ولا يمر فيها السفر بآدلِّ دليل) والسَّفَر (بفتح الفاء) هم المسافرون.. ويقول مسلم بن الوليد في وصف الصحراء: تمشي بها الريح حسرى مولهة حيرى تلوذُ بأطرافِ الجلاميد فحتى الريح تحتار في الصحراء المتاهة (صحصح) المستوية كالترس فلا تجد نبتاً تهزه ولا شيئاً تحركه، ما لها إلا الصخور تلوذ بها!.. وقال أعرابي يصف الصحراء التي يسكن فيها (فضاءٌ صحصح، وجبل صردح، ورملٌ أصبح) وصف الجبل بشدة القسوة والصلابة، والرمل بأنه يعلو بياضه حمرة (أصْبَحْ!). وامرؤ القيس اضطر لقطع تلك الصحراء المهلكة، وحين ركب جمله العود بكى الجمل بلغته الخاصة (جرجر) لأنه شمّ طريق الصحراء المخيف والتي سبق أن قطعها مرة فكاد يموت!! ولعله أقسم ألاَّ يعود!! ولكنه مضطر وقد قاده امرؤ القيس!! والأخير مضطر مثله لأنه مسافر يسري لإدراك ملك ابيه والثأر له، ولا بد من قطع المهالك!! يقول في وصف بداية طريق الصحراء المهلكة، وهو طريق لاحب شاحب لأنه لم يطرقه أحد من عشرات السنين: على لاحبٍ لا يُهْتَدَى لمنارِهِ إذا ساقه العَوْد النباطيُّ جرجرا وارحمتاه لهذا الجمل!!