الإنسان عندما يعاين موضوعا ما، لا تجري محددات الرؤية لديه متطابقة مع ما هو كائن في الواقع، وإنما تحاول الرؤية (والتي هي ذاتية بالطبع) أن تبدو متطابقة / متوافقة مع ما يعتلج في الداخل. وقد تبعد الشقة بين هذا وذاك، تبعا لتباعد طرفيْ المعادلة : المصلحة والحقيقة يصعب - إن لم يكن مستحيلا - أن تعاين الذات ذاتها، أو تقارب شيئا مما له علاقة بها بموضوعية؛ لأن العقل الإنساني الذي يُناط به فعل المعاينة الموضوعية لا يفكر بمعزل عن مكونات العاطفة، كما كان يَزعم أو يُزعم له. اليوم، يدرك الجميع بدهيات الحقائق التي قررتها نتائج العلوم الإنسانية المعاصرة، والتي تؤكد أن العواطف والدوافع الواعية وغير الواعية تدخل في تشكيل بنية العقل ذاته، فردياً كان أو جمعياً، وأنها تتكفل بتلوين السبب؛ وبتلوين مجال الرؤية حتى قبل تلوين النتائج، وأن العقل لم ولن يتجرد من محتواه الوجداني بالكامل، حتى وهو يتعاطى مع أكثر المواضيع حيادية، بل وأكثرها مادية؛ لأن التفكير ذاته لا يمكن أن يحدث خارج إطار (المعطى المادي الأولي)، المرتبط ضرورة - سلبا أو إيجابا - بالذات. ابتداء؛ لا يعني هذا أن اللاّموضوعية (والموضوعية تبعا) تشتغل في مستوى واحد، لا في مجال الفكر ولا في مجال الفعل. ما يتغياه العقل الإنساني، أو تطمح إليه إرادة التعقّل، هو التوفر على مستوى من التجرد يتجاوز التحيّز الصارخ ولو بالقليل . وكلما ارتفع مستوى التجرد، الذي يمكن - إلى حد ما - قياسه بالمعايير العامة التي تتوحد مع المشترك الإنساني؛ ارتفع مستوى الحياد، وتراجع مستوى الانحياز. الإنسان بطبعه يطمح إلى الأرقى والأجمل والأقوى. ومن ثم فهو يتعمد من السلوك قولا وفعلا ما يراه يتوافق مع هذا الطموح. هذا هو القانون العام للسلوك البشري بعيدا عن الاستثناءات التي تؤكده. ولهذا، لايجترح الإنسان الفعل / القول إلا وهو يعتقد أنه سيضيف إليه إضافة ما، إضافة تدخل في رصيده الإيجابي، ماديا أو معنويا (على تداخل فيما بينهما؛ فهو قد يسحب من هذا الرصيد ما يُضيفه إلى ذاك، والعكس صحيح). أي أنه لا يتعمد الإساءة إلى ذاته أصالة، بل قد يسيء من حيث هو يريد الإحسان، متوهما أو مُدّعيا أن فعل الإساءة لا يخرج عن دائرة الإحسان، ولو من باب أن صدم الشر بالشر أحزم - كما يقول شاعرنا القديم ! -. هنا، نرى كيف يصعب على الإنسان رؤية أفعاله / أقواله بتجرد؛ لأنه يعتقد أنه لا يفعل إلا الأصوب، على الأقل في مضمار ذاته. ومن هنا، لا تصبح الإساءة إلى الآخر في نظره إساءة، بقدر ما هي فعل مشروع لتحقيق ما هو الأجدى والأنفع للذات. وهذا مبدأ إنساني عام ينطبق على الوقائع الكبرى التي ترتبط بالأمم والدول والتجمعات الإنسانية الكبرى، كالغزو والسلب والاستعمار، كما ينطبق على الوقائع الصغرى والفردية، كالسرقة والاحتيال وكل محاولات التحقير والإذلال. من طبيعة الإنسان (وهو بالفطرة كائن ذاتي غير موضوعي) أن يعاين كل ما يرتبط به بحساسية بالغة، بحيث تتضخم في نظره أصغر الأشياء، وتصغر في نظره أعظم الأشياء؛ تبعا لمقتضيات الإشباع الذاتي المرتبط بالدوافع الأولى. الإنسان عندما يعاين موضوعا ما، لا تجري محددات الرؤية لديه متطابقة مع ما هو كائن في الواقع، وإنما تحاول الرؤية (والتي هي ذاتية بالطبع) أن تبدو متطابقة / متوافقة مع ما يعتلج في الداخل. وقد تبعد الشقة بين هذا وذاك، تبعا لتباعد طرفيْ المعادلة : المصلحة والحقيقة، إلى درجة أن يكون ما في الداخل نقيضاً ضِدياً لما في الخارج، وكأنهما موضوعان مختلفان لا صلة بينهما بحال. مثلا، لو أخذنا الاستعمار الغربي الذي امتد على مدى قرن ونصف تقريبا (وهو الاستعمار الذي رأته الشعوب المهزومة موضوع الاستعمار بوصفه غزوا وسلبا ونهبا مصحوبا بكل صيغ التوحش الإنساني)؛ لوجدنا أن الذين مارسوه (= الغزاة المُستعمِرون) لم ينظروا إليه بهذه الصفة السلبية، إذ من المعروف أنهم برروه بشتى المبررات العقلية والأخلاقية، بل ربما نظروا إليه مستصحبين الصفة المضادة لرؤية الشعوب المستعمَرة، أي بوصفه توسيعاً لآفاق الحضارة المعاصرة، وانتشالا للمقهورين البؤساء من عالم البؤس والقهر والتخلف والاستبداد!. صحيح أنه وُجد من بين أبناء الحضارة الغازية من يحاول قراءة التوسع الأوروبي قراءة محايدة، قراءة تجمع بين رؤية / رواية المستعمِرين، ورؤية / رواية المستعمَرين على ضوء المعطيات الموضوعية (= الوقائع مجردة من هويات الفاعلين). ولكن، يبقى أن الذهنية العامة التي تؤسس للثقافة وتتأسس عليها بقيت تنظر إلى تلك المعطيات نظرة تنفي عن الذات كلّ ما هو سلبي؛ في الوقت الذي تمارس فيه تبرير كل ما هو واضح السلبية؛ ليتحول - على مستوى الوعي به - إلى فعل إيجابي يستحق الإشادة به، بوصفه نضالاً في سبيل الحرية ومشروعاً إنسانياً في تعميم قيم التنوير. منذ زمن ليس بالقصير، يقلقني ويحيرني أن العالم (وخاصة، غير العربي، وغير الإسلامي) لا يشاركنا رؤيتنا الحادة - المتوهجة بالحق المقدس - للمسألة الفلسطينية. كثيراً ما تأملتُ فتألمت لتلك المواقف التي تتخذها كثير من دول العالم تجاه قضية نفترض فيها الثنائية المطلقة، والتي تؤكد أن الحق واضح أشد ما يكون الوضوح!. وبما أن كثيرين باتوا يخرجون من الحيرة تجاه مثل هذه المواقف المربكة بإحالتها إلى مسارات تآمرية، فإن التآمر المفترض ذاته بات يُحيل الذات إلى موضوع للكراهية يستهدفه الجميع بلا استثناء. وهذا وضع سيكون أسوأ من ضياع الحق في مسألة ما مهما كانت قداستها، إذ عندما تكون الذات موضوعاً للكراهية العامة من الشرق ومن الغرب، فلا شك أن هذا بحد ذاته موقف خطير، يدعو إلى مراجعة الذات لكل مكوناتها الثقافية، وخاصة ما يمس علاقتها بالآخرين. لا زال العرب والمسلمون يتحاشون وضع أنفسهم (ثقافة ودولاً ومجتمعات) تحت مشارط التشريح النقدي. لا زالوا يتمسكون بالصورة التي صنعوها لأنفسهم بأنفسهم، ولا يسمحون للصور الأخرى التي صنعها الآخرون لهم أن تجاورها ولو من باب الاستئناس. بمعنى أن رؤية الآخرين لنا، مهما تعددت مصادرها، ومهما اتفقت على قواسم مشتركة، لا تزال مُصادَرة ثقافياً، ولا يزال من يتطرّق - إليها ولو من بعيد -، متهماً بالشعوبية وبالتغريب، وربما بالكفر البَواح !. مؤخراً، ولحسن حظ الباحثين عن الانفتاح المعرفي متعدد الأبعاد، ظهر كتاب أعدّه من أجمل ما كتب في هذا المجال، خاصة وأنه يتناول موضوعا محصنا بكثير من هالات التقديس القومي والديني. الكتاب الذي أقصده بعنوان (الفتوحات العربية في روايات المغلوبين)، وهو من تأليف: حسام عيتاني، ومن منشورات دار الساقي ط 2011م. وقد بذل فيه المؤلف جهدا كبيرا في تتبع روايات أبناء الشعوب المغلوبة عن الفتوحات العربية، وفي رصد ما كتبه مفكروهم ومؤرخوهم عن زمن الفتوحات وعن سلوكيات الفاتحين . في الكتاب كثير من الشواهد الرائعة التي تعكس الرؤية النمطية لشعوب تواجه الاجتياح العسكري الذي يتعمد أن ينقلها من حال إلى حال، لا في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، وإنما حتى في المجال الروحي - ترغيبا وترهيبا - . كما أنك ستجد فيه كثيرا من اللمحات التي تؤكد النمطية العامة التي تطبع سلوك المهزوم في كل زمان ومكان. فكما يشير المؤلف ص177 نجد أن المسيحيين الذين اجتاح العرب بلادهم رأوا أن هذا الاجتياح تم بمؤامرة يهودية، على اعتبار أن اليهود استفادوا من توسع الإسلام السياسي الذي منحهم كثيراً من الحقوق؛ مقارنة بما كانوا يتمتعون به في ظل كثير من الممالك المسيحية آنذاك. واضح أن هذا الارتهان إلى نظرية المؤامرة من قبل هؤلاء المهزومين عسكريا ومعنويا (فالغزو العسكري رافقه تحول ديني ثقافي)، وتحديد مصدر التآمر باليهود، يتوافق مع ما يعانيه العرب / المسلمون اليوم، إذ هم يُفسّرون ما حل ويحل بهم من النكبات منذ قرنين إلى اليوم بمؤامرة يهودية تقف خلفها المنظمات اليهودية تحديداً، سواء السرية أو العلنية، وإن كانوا يركزون على السرية، خاصة تلك التي يمتد تاريخها إلى ما قبل ميلاد المسيح - عليه السلام - !. من أهم ما لاحظه المؤلف، وفي أكثر من موضع، أن زيادة درجة القسوة من قبل الغزاة يطّرد مع درجة تشويه الصورة، حيث يتعمد الآخر (= موضوع القسوة / ضحيتها) إلى المبالغة في تشويه الصورة، ومحاولة تضمينها كل ما يستطيعه من تبخيس وتحقير؛ كنوع من الانتقام الشخصي أو القومي / الديني . إن المؤلف منذ البداية يؤكد أنه لن يقع أسير أي من الرؤيتين غير الموضوعيتين، يقصد: الرؤية التبجيلية التمجيدية للفتوحات، والرؤية التي تتعمد تبخيس وتحقير كل ما قام به العرب على امتداد تاريخهم الطويل . أي أنه منذ البداية يصرح أنه عندما يورد روايت المغلوبين في الفاتحين فإنه لا يعتمدها مساراً أحادياً للرؤية . بل يؤكد أن (الحقيقة التاريخية) ليست موضوع كتابه، إذ ربما تكون تلك الحقيقة قد ضاعت وإلى الأبد، وإنما الذي يهمه هو تقديم رؤية هؤلاء المغلوبين لتكون في جوار رؤيتنا الرائجة، أقصد رؤية الغالبين التي تخضع لشروط لغة المنتصر الذي يصوغ الحقيقة وفق شروط الانتصار، ووفق متطلبات استمرارية الانتصار، حتى ولو كانت استمرارية على مستوى الأحلام. المهم في هذا الكتاب الرائع الذي أنصح بقراءته أنك ستقرأ ذاتك بعيون الآخرين، ستسمع حقائق، أو على الأقل، آراء لم تسمع بها من قبل. وإذا ما كنت مطلعاً على ما كتبه أسلافك العظام عن تاريخهم المجيد؛ فستُخضِعُ كثيرا مما كنت تراه حقائق مسلّمة في تراثك إلى محاكمات علمية وعقلية، بل وأخلاقية، لم تتصور في يوم من الأيام أنك ستقوم بها، خاصة وأنك سترى كثيرا من تلك الشعوب في هذا الكتاب قد جعلت جحافل أجدادك العظام عقابا من الله لها على تقصيرها في التمسك بأهداب دياناتها، وأنها اتخذت من وقائع هذه الفتوحات شواهد للوعظ والتقريع والتخويف، وحاولت من خلالها ربط المُقصّرين أو العابثين بديانات الآباء والأجداد . أي أنها رأتها نقمة؛ ا نعمة، لا بمجرد الإدعاء ولا الدعاية، وإنما بالإحالة إلى وقائع واقعية يصعب دحضها في معظم الأحيان. إن هذا الكتاب، فضلا عن طرافته وتشويقه، يُعدّ عملا علميا يستحق القراءة المتمعنة التي تضعه على محك القراءات الأخرى. ويجدر بكل مهتم بالشأن الثقافي العام، فضلا عن المتخصصين، الاطلاع عليه، خاصة وأنه يطرح شواهد ورؤى غير رائجة في سوق كتابة التاريخ التمجيدي الذي تعتمده أقسام التاريخ في جامعاتنا العتيدة . إنها مجرد رؤية أخرى مغايرة، تستحق التوقف عندها ولو قليلا، ولا يعني التوقف عندها التوافق معها، بل يعني أن ننظر - ولو قليلا - إلى أنفسنا في مرآة الآخر الخصم، حتى ولو افترضنا أنها مرآة تتعمد التشويه، المهم أن نرى ونسمع كيف يكتبنا الآخرون..