أتذكّر حينما كنّا ندرس في الولاياتالمتحدة، كانت هناك أستاذة تقوم بتدريس أحد المقررات المهمّة في الأنثروبولوجيا، ومنذ أول محاضرة شنّت تلك الأستاذة هجوماً على الرجال بشكل عام، وكانت تسخر منهم ومن حياتهم ولا تقبل الجدل حول هذا الموضوع. إننا نقع في بعض الأحيان أسرى لأفكار مُعيّنة نتورّط فيها بسبب مواقف خاصة أو تجارب ذاتية كما حصل مع تلك الأستاذة، أو بسبب قناعات أملتها القراءات والروح النضالية التي نشعر بها كما حصل مع المعلمة في فيلم «موناليزا سمايل». ويبقى المرء عبداً لتلك الأفكار دون أن يشعر، ويظل في نضال مستمر مع المجتمع لكي يُثبت صحّة أفكاره، وقد يقع في مشكلات ويخسر وربما يقضي على نفسه وهو مقتنع أنه مُحارب صلب ومُناضل ومع أنّ الطلاب المسجلين في المقرر هما اثنان فقط (أنا وطالب آخر) والبقية طالبات فإنها تُمضي أغلب الوقت في الحديث إلينا وتُشعرنا بالأسى كوننا ننتمي إلى عالم الرجال، ومضت المحاضرات وهي لاتكفّ عن التعبير عن حنقها الشديد على الرجل وتصبّ جام غضبها عليّ أنا وزميلي في أيّ أمرٍ يحصل كأن تتعطّل إضاءة القاعة أو تنسى هي إرسال إيميل للمجموعة أو أيّ شيء لا صلة لنا به. كان الأمر بالنسبة لنا أشبه بمغامرة وخاصّة أنها تتبرّم من أيّ تعليق يصدر منّا، وعلمنا أنّها تكره جنس الرجل بسبب طلاقها من زوجها الذي تلعنه باستمرار. كنت أتوقّع أنّها تعيش تجربة طلاق حصلت لها في فترة قريبة وهو ما يمكن أن نلتمس لها العذر فيه، ولكن طلاقها حصل قبل اثنتين وعشرين سنة ولا تزال تنظر إليه وكأنّه حصل قبل قليل. وبعد تشاور مع زميلي قررنا حذف المقرر وتركها تُصارع أفكارها السلبية عن الرجل. كانت تلك الأستاذة تعيش حالة «وهم» هستيرية ربما تصل إلى درجة «الضلالة» في اعتقادها بأنّ الرجل يحمل -بطبيعته- جميع الصفات السلبية كالخيانة والغدر والكذب والجشع والاستغلال والمكر والاحتيال والأنانية والغطرسة والبلادة وازدواج الشخصية والنفاق والبخل والشك والعنف، والتلذذ في تعذيب المرأة وإهانتها واستغلالها وابتزازها وسحق كرامتها وازدراء إنسانيتها وتدمير كيانها..إلخ. ولم يكن لديها ثمة احتمال بوجود أحد يخرج عن هذا التصنيف الصارم لجنس الرجال. صحيح أنّ تجربتها الشخصية ساعدتها في تبنّي هذه الفكرة، ولكن الذي عزّزها هو الواقع الافتراضي الذي ابتكرته ثم صدّقته وتعاملت معه على أنه واقع موجود لعالم الرجال. وقد علمتُ لاحقاً أنّ تاريخ نتائج الطلاب عندها منذ سنوات هو الرسوب أو عدم الإكمال؛ وهو ما يعني أنها مؤمنة إلى درجة اليقين بأنّ الرجل لايستحقّ أن ينجح في شيء. وشبيه برؤية تلك الأستاذة للعالم ما يعرضه علينا فيلم «موناليزا سمايل» وهو يبني فكرته حول ابتسامة السيدة الموناليزا التي لايعرف سببها، ويناقش الفيلم في البداية من خلال معلمة مادة الفن في المرحلة الثانوية فكرة أنّ الموناليزا تبتسم لأنها تشعر بالحرية والاستقلال من الرجل. لقد سعت تلك المعلمة إلى غرس مبادئ أساسيّة لدى طالباتها تتعلّق بأهميّة حريّتهن وضرورة تحقيق طموحاتهن أولاً قبل الارتباط بالزواج. كانت تلك الفكرة مُناهضة للواقع السائد في فترة الخمسينيات الذي كانت فيه عناية المرأة تنصبّ بالدرجة الأولى على بناء الأسرة. المعلمة كانت في الثلاثين من عمرها ولم تتزوج، وهو ما يعتبر أمراً غريباً في مجتمع تلك الفترة. وكانت تلك المعلمة ترى أن ما تفعله هو الصحيح وتجد أنه من الواجب عليها أن تنقل تجربتها إلى النساء الأخريات لكي لايُسارعن في الزواج الذي ترى أنه مقبرة لطموح المرأة. ويعرض الفيلم أنه في نهاية العام تخرجت الطالبات وتفاجأت أنهن اخترن الزواج ولم يكملن دراسة الجامعة بعد الثانوية حتى مع حرصها على إيجاد قبول لواحدة من أذكى الطالبات. بعض الطالبات اللاتي تزوجن فشلن في حياتهن إمّا مع أزواج يخونونهن أو مع أزواج متبلدي الإحساس أو أغبياء. وكانت تلك النتائج تدعم أفكارها وتدعوها للمضي قدماً في بثّ هذه الأفكار والترويج لها بين النساء؛ ولكن الطالبة الأذكى تزوّجت رجلا ذكياً ونجحت في زواجها واستطاعت بناء أسرة جميلة؛ وهذه الطالبة هي التي وقفت أمام المعلمة وشرحت لها أنّ أفكار المعلمة قد تكون صحيحة ولكنها كذلك قد تكون خاطئة، وليس بالضرورة أنّ ما يعيشه شخصٌ من تجربة فردية يمكن تعميمه دائماً على الآخرين، ويوضّح الفيلم كيف أنّ هذه الطالبة زعزعت قليلا أفكار تلك المعلمة وأثبتت لها أن الزواج أو العمل أو الدراسة ليست سوى وسائل إلى غاية وهي الحصول على السعادة، وأن هناك من تجد السعادة في الزواج فلماذا نلزمها على أن تجد السعادة في شيء آخر لايناسبها؟ وليس ثمة تعارض بين الزواج وتحقيق طموحات أخرى كالعمل مثلا؛ واستطاعت تدريجياً أن تقتنع المعلمة بأنها كانت عبدة لأفكارها لفترة طويلة من الزمن حتى جاءت هذه الطالبة واستطاعت إخراجها من دائرة ذلك الفكر المقيّد بواقع افتراضي محدود المعالم لكي تخرج منه فترى الحياة بشكل أشمل وأرحب وتُلفي فيه كل المتناقضات والمفارقات ومنها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي، وتجد أنّ الإنسان يصنع حياته من خلال مجموعة الاختيارات التي يُقررها بإرادته؛ فقد يكون تعيساً لأنّ اختياراته لم تكن مُوفّقة، وقد يكون سعيداً لأنّ قراراته في الاختيار لمجمل سلوكه كانت صحيحة. إننا نقع في بعض الأحيان أسرى لأفكار مُعيّنة نتورّط فيها بسبب مواقف خاصة أو تجارب ذاتية كما حصل مع تلك الأستاذة، أو بسبب قناعات أملتها القراءات والروح النضالية التي نشعر بها كما حصل مع المعلمة في فيلم «موناليزا سمايل». ويبقى المرء عبداً لتلك الأفكار دون أن يشعر، ويظل في نضال مستمر مع المجتمع لكي يُثبت صحّة أفكاره، وقد يقع في مشكلات ويخسر وربما يقضي على نفسه وهو مقتنع أنه مُحارب صلب ومُناضل شجاع يريد إصلاح المجتمع وتقويم الحياة، وتعديل أفكار الناس من منطلق أنه على صواب وأنّ غيره على خطأ. ومن يتابع ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة يجد طغيان هذا النوع من الروح النضالية عند البعض ممّن يفنون أوقاتهم وجهدهم في سبيل الترويج لأفكار ثوريّة لاتجد القبول عند الجميع وتحمل مغالطات لايُدركونها لأن الواحد منهم يعيش داخل دائرة مغلقة من واقع افتراضي تتوالد فيه الأفكار وتتعزّز من خلال مؤشرات وقرائن يجلبها العقل لكي يُبرهن على صحّة مايؤمن به. والواقع أن العقل في هذه الحالة يكون انتقائياً بحيث يأخذ الأمثلة والنماذج التي تتفق معه ويتحاشى الأمثلة والنماذج التي تتعارض مع قناعاته؛ وهنا يكون العقل قد قام بعمليّة خداع مبرمجة لصاحبه وهو مايجعله بالفعل أسيراً مُقيداً بقيود مُحكمة لذلك الفكر. ولكن الشخص صاحب الرؤية الواعية هو الذي يملك الشجاعة في التحرّر من قيود تلك الأفكار. ولو استطاع المرء الانعتاق من دائرة الواقع الافتراضي الذي نسجه عقله لربما وجد واقعاً مختلفاً؛ وهنا يمكنه مناقشة أفكاره والحوار معها لكي يرى الجوانب الإيجابيّة التي لم ترها عينه ويتفقّد الجوانب السلبيّة ويُقارنها بغيرها لكي يخرج برؤية متوازنة وحكم صائب يقوم على احترام الجميع وتقدير الاختلافات، وبهذا يستطيع التعامل مع الحياة حسب معطياتها الواقعية..