مَرّت بي رياحُ الغفوة العاتية كما مرّت بمُجايليّ، ولكن الله سلّمَ؛ فنجوت منها بنفسي هارباً إلى نفسي، نجوت من جهالاتها العمياء، وغباواتها المستحكمة؛ ولمّا أكَد. وقد كان لتمدد قراءاتي - من قبلها وأثناءها - على مساحات واسعة تقع خارج مجال نفوذها الفكري/ الإيديولوجي الفضل كل الفضل في تجاوزي لتلك المرحلة الحرجة التي كدت أقع - بسببها كظرف تاريخي - في أتون الإيديولوجيا الغفوية التي لا تأتي على عقل إنسان سويّ إلا جعلته كالرميم. طبعا، التقليدية الأثرية المتوهجة تزمتاً وعداء للآخر كانت أشد غباء وأكثر بلادة من أن تجتذبني إلى خطابها الذي يقع خارج مسار التاريخ بالكامل. وهي (= التقليدية الأثرية) تختلف - ولو قليلا - عن الغفوة التي لا ينكر أحدٌ أن بريقها الحركي ذا النفسي الأممي النضالي بريق خاطف يكاد يذهب بالأبصار، وبالبصائر تباعا. أي أن التقليدية لتفاهتها لم يكن فيها ما يمكن أن يمثل إغراء من أي نوع؛ إلا لمن أراد لأسباب عقلية ونفسية أن يُجاور سكان القبور، ويذهب بعيدا في أدغال الدهور، متعزيا عن إحباطات الواقع ولو بالانتحار اليائس على عتبات الجنون. لم أنخدع بمقولة (الجيل الفريد) القطبية، ومبكرا نزعت غلالة القداسة عن جسد التاريخ المقدس. وبطبيعة الحال؛ لم يكن هذا الوعي المبكر تميزا ذاتيا ، أي لم يكن لتوفري على ما هو استثنائي، وإنما فقط لخروجي عبر الوسيط القرائي من الاستعباد الفكري الذي يفرضه الحصار الدعوي (لا المعرفي!) على منافذ الوعي آنذاك، إلى فضاءات قرائية أوسع وأجمل. قبل أن أقرأ لمحمد قطب، وسيد قطب، وعماد الدين خليل، وعبدالرحمن رأفت الباشا، ومحمود شاكر، ومحب الدين الخطيب...إلخ وتلاميذهم المتواضعين محليا، كنت قد قرأت (وفي البداية لأسباب أدبية خالصة) ما كتبه العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، وهيكل، والزيات...إلخ، فضلا عن قراءة التاريخ في مصادره الأساسية (ومرة أخرى لأسباب أدبية)، فالطبري، وابن هشام، وابن الجوزي، والمبرد، والقالي، وابن قتيبة، وابن عبدربه، والأصفهاني، والثعالبي، وابن الخطيب...إلخ كانوا من غِوَاياتي القرائية قبل أن أعرف مدرسة تزييف التاريخ، تلك المدرسة التي كانت تكتب التاريخ بهَمٍّ إيديولوجي، بحيث تُنحر فيها قرابين الحقيقة العلمية على عتبات هذا الهمّ المشتعل أوهاماً وتهويمات لا تتغيا إلا تلبية احتياجات غرائز البدائيين. في مصادر التاريخ الأولى، وعند كُتّاب ومفكري الاستنارة في زمن الإحياء العربي، وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين، كان التاريخ تاريخا طبيعيا، أي أنه كان يسير وفق منطق يقترب جداً من التفسير المادي للتاريخ. هكذا قرأته، وهكذا تصورته من خلال التواتر العلمي سندا، والتواتر العقلي تطابقا أو تماثلا مع وقائع الراهن. وبهذا رأيته تاريخا بشريا؛ بينما هو عند دراويش التقليدية ومغفلي الغفوة من رموز الحراك المتأسلم يبدو تاريخا متعاليا، تاريخا خارج قوانين التاريخ، بل وكثيرا ما يبدو تاريخا مُفارقا لقوانين العقل، ولقوانين المادة؛ كما لو أنه خطرات من الإعجاز التي تتجاوز الطبيعة، طبيعة الأرض وطبيعة الإنسان، وطبيعة العلاقة بين هذا وذاك. نحن لا نقرأ التاريخ لنعيد إنتاج التاريخ ، بل نقرأ التاريخ من أجل فهم قوانين التاريخ الأزلية التي تتحكم في مسيرته سلبا وإيجابا. قراءة التاريخ بصورة مغلوطة تُحيل إلى واقع مغلوط؛ لأن المتصور الذهني عن الواقع التاريخي، والذي سيقود حركة التاريخ إلى آفاق المستقبل سيكون مزيفاً، وسيمارس تزييف الواقع وتشويهه بقدر ما فيه من زيف وتشويه. إن حركة التاريخ ليست حركة التصورات الذهنية عن التاريخ؛ حتى وإن أثّرت هذه التصورات في مجريات واقعنا الراهن. حركة التاريخ هي حركة وقائع التاريخ، كما حدثت فعلا، وبمحركاته الأولى، وصولا إلى الفعل الجدلي، بعد المرور بالنفي ونفي النفي. ولهذا، فالوجود المادي العيني للبشر في الطبيعة هو الذي يفرز قوانين العقل (ومن ثم قوانين الأخلاق) التي لا بد أن تتواءم وحاجيات هذا الإنسان المشروط بالطبيعة ضرورة؛ بحيث لا يمكنه الانعتاق منها بحال. من هنا، لم تكن قراءة الفلسفة المادية للتاريخ خاطئة تماما،لا على مستوى الفرد ولا على مستوى الجماعة. ولعل نقطة ضعفها كقراءة موضوعية (وضعانية) أنها كانت تمارس نفي البعد المفارق للإنسان، أي أن نقطة الضعف فيها لم تكن في ماديتها التي هي محور تميزها، وإنما في أحادية البعد المادي، أي في بُعدها المادي الخالص. ولو أنها انفتحت على الآفاق الأخرى بما لا ينقض الأصل المادي ؛ لربما كانت أقرب القراءات إلى تحقيق رؤية مقاربة للإنسان الواقعي، أو الإنسان في التاريخ. عندما يؤكد ماركس أن فهم التاريخ مرتبط بضرورة معاينة البشر كجزء من العالم المادي؛ فهو يضع الأساس العلمي لقراءة التاريخ. وطبعا، ليس الخطأ في هذا الأساس، وإنما في ما يُبنى على هذا الأساس تهميشا وتوحيدا: تهميش الأبعاد الأخرى، وتوحيد البعد المادي للإنسان. فإذا كانت الطبيعة مادة/ مادية تتأبى على كل صور الاختراق/ المعجزات فإن الإنسان ليس كذلك، أو هو على نحو أدق ليس كذلك تماما؛ إلا إذا اعتبرنا مفارقته (مفارقة الوعي) جزءاً من طبيعة وجوده المادي. وهنا يصبح الإنسان المتجاوز للطبيعة أحدَ تجليات الظاهرة الطبيعية؛ حتى وهو يحمل في الوقت نفسه بذور وجوده المفارق/ اللاطبيعي(= المتجاوز للطبيعة) بداخله. وهنا تحضر الجدلية بأرقى صورها، وذلك عندما تكون، تفاعلا بين إنسان فرد « واعٍ « من جهة، وبين الطبيعة من جهة أخرى، متجاوزة الجدل الاجتماعي وصراع الإرادات المهيمنة التي قد تبدو ظاهرة في صراع الطبقات الذي يتكئ عليه الماركسيون؛ مع تأكيد ماركس أن المادية ليست هي المادية (المكيانيكية) أو (البدائية)؛ لأن الإنسان رغم حيوانيته كائن متمايز في التاريخ. إن معظم المفكرين العرب الذين قرأوا التاريخ بمنهج علمي موضوعي، إنما فعلوا ذلك تأثرا بالمادية التاريخية. ليس شرطا أن يتأثروا بها مباشرة من خلال إحدى مدارسها الشهيرة، وإنما يكفي أن تتسرب إليهم مفاهيمها وتصوراتها من خلال تحولاتها وتنقلاتها بين حقول المعرفة، حتى ولو تم ذلك عبر وسائط التيارات المضادة لها. واليوم أفضل ما يُكتب عن التاريخ إنما يتم بأقلام يساريين سابقين. في عالمنا العربي الغارق في الأوهام والخرافات والخوارق وتصورات الإعجاز لا يتوفر المفكر على مستوى معقول من العلمية إلا بعد أن يوغل في المادية التاريخية لعقدين أو ثلاثة عقود. فمثلا، لولا البدايات الماركسية لعبدالوهاب المسيري لما استطاع تفسير الحالة اليهودية/ الصهيونية على هذا النحو العلمي الذي يربط مسيرة اليهود بحركة التاريخ المادي، إلى درجة أقلق بها حتى أقرب التيارات الإيديولوجية إلى عالمه النضالي. ولا شك أن المسيري هو النموذج الأمثل للمادية التي لم تقف عند حدود الأساس المادي معتقدة الكفاية فيه، بل استحضرته كقاعدة تفسيرية تنتظم بقية الأبعاد الأخرى؛ دون أن تمارس عليها نفيا أو تهميشا، أي دون أن تفعل ما تفعله ماركسية المتأدلجين بالماركسية، أقصد أولئك المتدينين بها، الذين يرونها بداية كل الأشياء ونهاية كل الأشياء. إن الرؤية المادية ليست بدعة، وستكون أفضل لو كانت كذلك. لكن، يبقىأن للرؤية المادية جذورها الواضحة منذ القدم ، وفي كل الحضارات تقريبا، وظهورها في المعرفة اليونانية، وخاصة في سياق النسق الفلسفي، كان تحولا نوعيا في التاريخ، إذ بقيت جذوته تتوقد قرونا إلى أن استحالت نارا يتصاعد أوارها منذ القرن الخامس عشر ولا تزال. منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين توالى زخم الرؤى المادية، إلى درجة أن تبلورت هذه الرؤى في تيارات ومذاهب أثرت في العصر كله، وطبعته إلى حد كبير بطابعها. لا يمكن إنكار أثر أوجست كونت وسان سيمون وماركس وإن بدرجات متفاوتة على ما كتبه كل المفكرين في القرن العشرين. ولا يشك أحد أن التصورات الخرافية أو تلك المغرقة في تهويماتها المتعالية تضاءل حضورها بفضل الحضور المتنامي للرؤى العلمية المتقاطعة مع المادية التاريخية، ولو على سبيل التضاد في بعض الأحيان. إذن، كان لهذه الرؤى المادية تأثيراتها الإيجابية علينا. فبشيوع هذه الروح العلمية؛ لا يمكن أن تقرأ (الجيل الفريد) كما يريد لك محمد قطب أن تقرأه (انظر كتابه : كيف نكتب التاريخ؟). إنك بعد أن تتجاوز القراءات العقائدية المسبقة إلى مجال القراءات الموضوعية لا يمكن أن تدخل العالم الأسطوري الذي يضعه لك عبدالرحمن رأفت الباشا؛ إلا وأنت تعي مستوى الأسطرة التي تتوسل بالتزييف والتدليس. قارن ما كتبه العقاد وطه حسين وأحمد أمين بما كتبه الباشا وبما يكتبه طلاب الدراسات التاريخية في جامعاتنا العتيدة! ؛ ترَ الفرق هائلاً بين قراءة تتوسل (حتى وإن لم تظفر بالحد الأدنى المطلوب) المنهج العلمي الموضوعي، وقراءة غيبية، ما قبلية، تتنكر لحقائق التاريخ، وتجبرها على أن تنطق بالمعنى المضاد؛ رغم وضوحها وتواترها إلى ما يشبه الإجماع التاريخي. من حق الجيل الصاعد ألا يثق بكثير مما يطرحه عليه تجار الوعظ الذين يمارسون الوعظ من خلال التاريخ؛ لأن استخدام التاريخ كوثائق للوعظ والتجييش يتنافى مع الرؤية العلمية. الرؤية العلمية لا تستنكف أن تعرّي الوقائع والأشخاص، وتطرحهم ككائنات إنسانية « طبيعية» مجردين من أوهام القداسة ومن ملابسات التوثين؛ بينما يسقط الوعظ من أساسه عندما يتخلى عن أسطرة التاريخ. إن الجيل الصاعد سيقرأ الفتنة وأحداثها السابقة واللاحقة، والنتائج المترتبة عليها من خلال ما كتبه طه حسين، والعقاد، وأحمد أمين، ومحمود إسماعيل، وهشام جعيط، والعروي، والجابري..إلخ، وليس من خلال رسالة (علمية!) يتقدم بها طالب تم ترويضه وتطويعه على البلادة والاستنفاع؛ لنيل درجة أكاديمية، واضعا في اعتباره أن أي خروج على الخط الإيديولوجي القائم على التقديس، والمتعالي على مادية التاريخ، مادية أناسه وأحداثه؛ سيحبط عمله في نظر سدنة الوهم الذين يمسكون مصيره من الألف إلى الياء!. إن الإنسان في القديم هو الإنسان في الحديث. الإنسان هو الإنسان في كل العصور. لا اختلاف في النوع، ولا في الدرجة إلا على مستوى الأفراد، لا الجماعات. وحتى هذا الاختلاف الطفيف ليس لزمن على زمن، فربما فاق المتأخرُ المتقدمَ في هذا الأمر أو ذاك. فالإنسان في النهاية هو ابن احتياجاته المادية والمعنوية. والمعنوية هنا لا تنفصل عن المادية بحال، بل هي انعكاس لها، واحتيال واعٍ وغير واعٍ من أجل إشباعها. وكل لأنظمة والقوانين ومواضعات الأخلاق، وحتى القيم المعنوية والرمزية لم توضع إلا على ضوء هذا الشرط المادي للإنسان. لهذا، من الطبيعي أن نرى الأحداث/ التاريخ وفق تطلعاتنا واحتياجاتنا الراهنة. حتى ونحن نتوسل العلمية والموضوعية بأقصى درجات الإخلاص (أو ما نتوهمه كذلك) تتحكم بنا هذه التطلعات والاحتياجات من غير أن نعي آثارها علينا، وعلى ما نتصوره كحقائق في الراهن المتعين أمامنا أو في التاريخ. ومن هنا، لا بد ونحن نقرأ التاريخ أن نمارس قراءتنا للتاريخ بشكل متوازٍ مع فعل القراءة الأول؛ حتى لا نقع غارقين في بحيرة أوهامنا؛ متوهمين أننا بلغنا بالحقيقة عنان السماء، بينما نحن في بحر لجيّ من ظلمات ثلاث، إذا أخرج الإنسان فيها صحيفة وعيه لم يكد يراها!..