هناك قصة إعلامية عربية مخزية وشهيرة يرددها الكتاب العرب كثيرا. القصة هي سقوط طائرات العدو في حرب 67 الذي لعب بطولتها المذيع أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب ولكن كان كل ذلك يحدث في الحقيقة بعالم خيالي أما في الواقع فإن القوات الإسرائيلية أصبحت لا تبعد عن القاهرة إلا بضع كيلو مترات. آخر خروج لأحمد سعيد كان على قناة العربية وظهر بشكل رجل مرتاح الضمير الذي لم يقترف اخطاء كبيرة في حياته بل أكد أنه كان يقدم واجبا وطنيا. ربما كان احمد سعيد متحمسا قليلا ولكن هل كان بإمكانه عمل شيء مناقض لما قاله عن تهافت قوات العدو وتساقط الطائرات كالذباب؟. من الواضح انه لم يكن بمقدوره فعل هذا الأمر لأنه كان يطبق سياسات الحكومة الناصرية التي لا تعترف بالإعلام المكاشفي والشفاف والنقدي . هذا قصة قديمة. كانت إذاعة صوت العرب المصدر المعلوماتي الحكومي الوحيد بالنسبة للعرب. بعدها تناسلت قنوات التلفزيون الحكومي التي أحتكرت المشهد الإعلامي بالنسبة للمشاهدين وروجت لأيديولوجية الحكومات. ولكن هذه التلفزيونات أشبه الآن بمزارع مهجورة لا أحد يقف عند ابوابها. يقول الدكتور محمد الرميحي إن الإعلام الحكومي ميت تماما بسبب وجود منافسة من قنوات فضائية وبسبب فضاء الإنترنت الذي يتمتع بحرية كاملة. الأسبوع الماضي قامت قناة الحرة ببث شريط لقاء ودي يجمع بين المدير السابق لقناة الجزيرة جاسم العلي وعدي صدام حسين يوضح مدى الإرتباط الوثيق بين المحطة والنظام العراقي السابق. كان مدير الجزيرة يقول أنهم سعيدون بتوجيهات ابن الرئيس ويعملون بها وكان عدي يقول: إنه من الواضح أنهم في القناة يستمعون جيدا لنصائحه. هذا الشريط دفع الحديث الهامس حول إرتباط الفضائيات بشكل وثيق بالحكومات إلى السطح. يبدو الأمر وكأن الروح التلفزيونات الحكومية لم تمت ولكنها بعثت من جديد عبر أجساد الفضائيات التي تظهر بشكل المستقل المتحرر عن توجيه أو وصاية حكومية. يقول الدكتور محمد الرميحي بأنه إذا لم تكن هناك شفافية مالية فإنه من الصعب القول بوجود حرية إعلامية حقيقية ويضيف:( سيكون هناك دفع من تحت الطاولة مقابل خدمات تقدمها الجهة الإعلامية). خلال الخمس عشرة سنة الماضية أزدهرت القنوات الفضائية التي تهتم في العالم العربي وخلال العامين الماضيين فقط نشأت أكثر من عشر قنوات فضائية. ويبدو أن هذه القنوات على علاقة غير مرئية بالحكومات وذلك عن طريق الدعم أو تقديم التسهيلات أو ضمانات . المقابل هو ألا تقوم هذه المحطات بخدمة هذه الحكومات أو على الأقل لا تقوم بإزعاجها. ودخلت هذه الفضائيات حلبة الصراع السياسي وأصبحت تستخدمها بعض الدول كمخلب قط للإضرار بدول أخرى .أصبح شعارات الحرية والنقد وكشف الحقيقة التي تطلقها المحطات الفضائية تأتي في المقام الاول في خدمة سياسة الدول التي تحتضنها . الدكتور محمد الرميحي يقول إن هناك تنافساً واضحاً من الحكومات على الفضائيات لتقوم بخدمتها بعد أن فشلت التلفزيونات الحكومية بلعب نفس الدور بسبب فقدان مصداقيتها من قبل الناس. في الواقع هناك مساحة من الجدل الحر قدمتها هذه الفضائيات وقد أسعد هذا الأمر الكثيرين في البداية إلا أن هذا النوع من الحرية المستهلكة التي تدور في فضاء خطاب تعويمي لا يلمس صلب قضايا المجتمعات. يقول مدير قناة الحرة السيد موفق حرب أن الحرية لا يمكن ان تأتي مجزأة، ويضيف :( المرأة إما تكون حامل او لا تكون . هذه تماما مثل الحرية. إما أن تكون كاملة أو لا تكون). ويقول موفق حرب أن الشريط الذي بثوه عن علاقة قناة الجزيرة بالنظام العراقي قد لا تقدم عليه محطات فضائية أخرى بسبب اعتبارات سياسية أو غير ذلك أما بالنسبة لهم فإنهم لا يهتمون بمثل هذه الاعتبارات بل تمثل القيم المهنية هي مرجعيتهم الأولى والأخيرة. يقول أحد الخبراء الإعلاميين إن المحطات الفضائية العربية ستبقى مثل الكلاب التي تجر المتسابقين على الجالسين على العربات في منافسات التزلج على الثلوج . ستبدو متقدمة على الانظمة وتقوم بنقدها ولكنها عندما تحاول التقدم أكثر وتبدي قدرا أعلى من الخشونة فسيقطع عنها الحبل وستضيع وتتجمد. من المؤكد أن تطور الإعلام مرتبط بشكل كبير بتطور الحكومات العربية وانتهاجها سياسات أكثر ديموقراطية وانفتاحا . في غالبية الدول العربية لا يمكنك فتح محطة بدون أن تعرف الحكومة توجهات هذه المحطة وأهدافها وعندما تقوم هذه المحطة بنقد عمل الحكومة فستكون مهددة بأنواع متعددة من العقاب. في الدول الديمقراطية تنتقد المحطات بشراسة عمل الحكومة وهي مطمئنة لأنها تستند على قوانين صلبة تكفل لها الحرية في النقد وكشف الحقيقة. الدكتور محمد الرميحي غير متفائل بمستقبل الإعلام بسبب ضغوط الحكومات والإعلان والضغط الجماهيري. أما موفق حرب فمتفائل ويتوقع أن تحدث تغيرات كبيرة في المستقبل القريب تدفعه نحو حرية واستقلالية أكثر. مؤكد جدا أن هذا التغيير لن يعني أن تنزع الحكومات كل أظافرها من ظهور الفضائيات العربية.