كان الدكتور سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب من ألطف خلق الله في مجالسه وفي خفة ظله على الخصوص، وكان في ذلك على مذهب الخيّام في الضيق ممن يسميهم صاحب الرباعيات ثقلاء الظل (أبعد ثقيل الظل عن مجلسي)، وفي التنويه بمن ظلّه خفيف (أفق خفيف الظل)، والواقع أن خفة الظل صفة كثيراً ما يفتقدها الناس في مجالس بعض الأدباء والشعراء والفنانين الذين لا يستطيعون قهر الغرور والتعالي وأسلوب وعظ الآخر والاعجاب الكبير بالذات، ويفتقدون نقد الذات ومحاسبتها، وقد كان سهيل إدريس يختلف عن هؤلاء فيشيع في مجالسه البسمة ولا يوفر حتى ذاته من النكتة والسخرية. فقد روى في الكتاب الأخير الذي صدر له في سنواته الأخيرة أنه في شبابه لبس الجبة والعمامة كي يكون شيخاً من شيوخ الدين في بيروت. ولكنه عندما بدأ يتجول بلباسه هذا في المجتمع أثار السخرية نظراً لقصر قامته، وأثار ذلك أيضاً ريبته في كون توجهه نحو الانضمام إلى سلك رجال الدين في محله، ولكنه حسم أمره نهائياً وقرر العودة إلى الحياة المدنية عقب حادثة جرت له، ذلك أنه كان يسير يوماً في بعض شوارع بيروت بالجبة والعمامة، فإذا بسيدة تطل من شرفة منزلها وتناديه على النحو التالي: «يا شيخ! يا شيخ!» فتوقف عن السير لينظر إلى المرأة التي تابعت حديثها معه قائلة: «أرجوك وقّف شوية حتى فوت قول لأختي تجي. تتفرّج عليك».. أي أنها تطلب منه أن يقف قليلاً لكي تدخل منزلها وتنادي شقيقتها لتتفرج عليه.. عندما قرر نهائياً ترك الثوب الديني من هو أطول قامة منه. على هذا النحو كان مجلس صاحب الآداب يفيض بقفشات وحكايات تُشيع الأنس وتطرد العبوس. وهناك حكاية جرت بيننا في طرابلس زمن القذافي كثيراً ما تردد إلى ذهني، فلا أجد نفسي إلا وقد غرقت في الضحك. تلقينا معاً دعوة من الأديب الليبي الكبير ليفة التليسي لزيارة ليبيا للمشاركة في حفل أدبي واتفقنا على تلبيتها. قال لي إنه سيسبقني إلى طرابلس من أجل انجاز بعض مشاغله فيها على أن ألحق به بعد أيام قليلة. وهكذا كان. وعندما التقيت به في «الفندق الكبير» بطرابلس وقد وصلت إليه بعد ظهر أحد الأيام، قلت له: يا دكتور سهيل ما الذي يجري في طرابلس؟ لقد لاحظت وأنا في الطريق من المطار إلى الفندق تحركاً جماهيرياً غير عادي: أشخاص يحملون أعلاماً ولافتات مطوية وكأنهم عائدون للتو من مظاهرات. فما الذي يجري في الجماهيرية؟ قال لي وقد بدأت الطرافة ترتسم على وجهه: «شو بدي خبّرك؟ عمت المظاهرات ليبيا اليوم من أقصاها إلى أقصاها. تسألني عن السبب. الجماهير تطالب بعودة الأسرى الليبيين من السجون الايطالية». كان ذلك في بداية التسعينيات من القرن الماضي. وعندما ذكر لي سهيل إدريس، رحمه الله، أن المظاهرات الصاخبة التي اجتاحت ليبيا في ذلك اليوم كانت تطالب بعودة الأسرى الليبيين من السجون الايطالية، تساءلت بيني وبين نفسي عما إذا كانم لا يزال هناك بالفعل أسرى ليبيون محتجزين إلى ذلك الوقت في السجون الايطالية. ذلك أنه مرّ على انتهاء الحرب العالمية الثانية حوالي خمسين عاماً. فهل يُعقل أن يكون هناك مثل هؤلاء الأسرى؟ ولماذا لم تخل ايطاليا سبيلهم، وتعيدهم إلى بلدهم؟ ولماذا لا تطالب الحكومة الليبية بهم بالوسائل الدبلوماسية وما إليها؟ ولكن الزمن الليبي يومها كان زمناً لا عقلانياً، وفيه يعقل ما لا يعقل في سواه.. بحت لسهيل إدريس بما ورد إلى ذهني، همساً بالطبع، وكان الزمن زمن الهمس أيضاً، فقال لي وهو يضحك: «ولنفترض أنه لا يزال في ايطاليا أسرى ليبيون في أيام الحرب العالمية الثانية، فأي أسر يفضّلون: الأسر الايطالي أم الأسر الليبي»؟ بهذه العبارة اختصر سهيل إدريس زمن المرارة والملوحة الذي وصف أمناً مثيلاً له، وبالكوميديا السوداء نفسها، أبوالعلاء المعري عندما قال: «هذا زمان القرود فاصمت وكن له سامعاً مطيعاً»! على أن مأثورات صاحب الآداب لم تقتصر على مثل هذه الكلمات المرحة، وإنما كثيراً ما كانت له كلمات من نوع آخر. فقد ذكر لي مرة أنه لا يستطيع أن يطالع كتاباً يعرف مسبقاً أن مؤلفه على علاقة سيئة مع مؤسسة مكارم الأخلاق.. وعبثاً حاولت أن أقنعه بضرورة الفصل بينم الكتاب والكاتب، وبنظرية موت المؤلف التي شاعت في الغرب. ولكنه أصر على أنه لا يستطيع الانتصار على هذه الفكرة، ولعلها من نقاط ضعفه.. ولكن سهيل إدريس لم يكن ضعيفاً أبداً، ويكفيه قوة أنه أصدر في منتصف القرن العشرين مجلة أدبية كانت زينة المجلات الأدبية العربية لأكثر من نصف قرن، وفيها يلتمس الباحثون اليوم ديوان الأدب العربي المعاصر والحديث. د. سهيل إدريس