تبدو علاقة الكتابة الإبداعية بالطب النفسي علاقة متأصلة وجذرية لا تقبل رهان الانفصال بينهما، بل هما رهانٌ متبادل واستشفاء يُعد هو الأول من نوعه، تماماً كما يقول فرويد"إن أعلم الناس بالنفس البشرية هم الكُتاب والشعراء"، وفي إصدار للدكتورة خلود باسماعيل نجد أن الكتابة حاجة إنسانية عميقة، جريدة "الرياض" حاورت خلود باسماعيل في إصدارها الجديد"نقرات على أصابع البيانو"ورؤيتها للكتابة، والأسئلة المؤرقة للكيان الإنساني عموماً. * في بداية كتابك أستاذة خلود تطرقتِ إلى الموسيقى على أنها لا تدع لنا متسعاً من الوحدة، أما عن الكلمات والنصوص التي تكونت منها صفحات الكتاب المتبقية فإنها قلق ووعد وحياة وحب وأسى واحتمالات مفتوحة للحياة والكثير الكثير من الإيمان والأسئلة؟ سؤالي تحديداً لماذا هذه المحاكمة اللغوية السريعة للكتابة، ولماذا أعطيتِ الموسيقى صك البراءة؟ ألم تكن الموسيقى على حد تعبير بودلين: "هي مرآة الإنسان الحقيقية التي لا تتشوه"؟. - هكذا أراها .. نقية دوماً، في المقدمات نحن نخترل روح الكتاب في كلمات معدودة، وأنا اختزلت الكتاب لا الكتابة، أي جزء من كل، جزء يخصني مازلت أتعامل معه بما يشبه المرحلة التي أعيشها حتى انتقل إلى مرحلة مختلفة تختلف معها مرامي الكتابة.. والكتاب، فيما يتعلق بالموسيقى اتفق مع بودلين تماماً، الموسيقى هي امتدادٌ للإنسان، والإيقاع الموسيقي هو إيقاعٌ روحي قبل أن يجد طريقه إلى نوتة موسيقية أو إلى كمان أو بيانو! يمكن للإنسان من خلال الموسيقى أن يُسِر إلى الكون بأدق أسراره والآمه العميقة، تلك التي يخبئها في الأدراج الخلفية لروحه، ببساطة وصدق ودون تزييف أو اعتذار.. كيف يمكن إذن للموسيقى أن تُتَهم ؟ * هل تكتبين لترسمين عُمراً أجمل وواقعاً أكثر اتساعا، أم لأنكِ تريدين أن ترثين موت الحكايات الجميلة والليالي الدافئة التي لم ولن تأتي؟. - لكل نصيب مما كتبت وأكتب، حتى يتغير شكل العمر وينتفي نصف الغموض وتنتهي صلاحية أسئلة بعينها لتظهر أخرى تتناسب وشكل الحياة، إذن أهداف الكتابة متلونة عند الكاتب/الإنسان ، أنا أكتب لأسجل كيف تبدو الحياة من المقعد الذي أجلس عليه، لأفهم وأعيد الفهم، وأحياناً لأجد بعض السلوى في رفيقتي القديمة "الكتابة" التي تفهم دوماً ما أعني. أحيانا أرسم وعداً وأحيانا ارثي احتمالاً، وكثيراً ما أقف وأتأمل ببساطة ودون أن اتخذ موقفاً أو أسلك اتجاها بعينه. * في نصكِ"أبناء السماء" الذي تحدثتِ فيه عن الفقراء، وجدتْ بأنكِ قد أعدتِ تعريفهم من جديد وفق رؤية مختلفة عن النمط السائد، هل لأن الفقر وكما يقول المثل الهندي "هو الشيء الوحيد الذي يأتي دون عناء"؟ - التشرد دون فقر، دون عوز، أو عوز بشكل مختلف، التشرد الروحي الذي يصيب البعض فيكسبهم حالاً من غرابةِ الأطوار، أولئك العصيون على الوضع تحت خانة بعينها أو ضمن قاعدة تتنبأ من خلالها بِغَدهم وما سيكونون عليه في وقت آخر، هذا ما أردت رصدهُ في نص "أبناء السماء"، وفقر هؤلاء افتقار إلى جذور تمسكهم إلى أرض بعينها، وإلى استقرار ما، الفقر بأشكاله مجاني ويعرف كيف يجد طريقه للإنسان كأي معاناة أخرى دون جهد. * بصفتكِ متخصصة في مجال الطب النفسي ماذا قدمتْ الكتابة لكِ في مجال الأدب تحديداً؟ هل هي فضاء يكفي لحل مشاكلنا أكثر من الأقراص البيضاء؟ أم أن البؤس والحزن حليفا الإنسان مهما كتب ومهما قال ومهما صرخ؟. - أول المحللين النفسيين كانوا من الكتاب، فترى العالم النفسي الرائد فرويد يشيد بدستوفيسكي ومقدرته على تحليل النوازع البشرية في روايته " الأخوة كارامازوف" ويراه فناناً مستحقاً للخلود، العلاقة وثيقة بين علم النفس والكتابة، أما إن كنت تقصد دور الكتابة في التخلص من المعاناة النفسية، فالكتابة توفر وسيلة للتفريغ والفهم والتحرر من الهواجس الذاتية في شخوص منفصلة كلياً، فيتاح للشخص الفهم والمحاكمة وابتداع واقع جديد من خلالها، كما يقول بارغاس يوسا" الكتابة حال من التمرد على الواقع"، لو لم تكن للكتابة كل هذه الإتاحة لما كتب الإنسان، الكتابة تكسب الإنسان شيئاً من التوازن وتعيد ترتيب أوراقه، ولكن هل سيحتاج إلى عقار نفسي؟ الأمر يعود إلى درجة اختلال التوازن لديه. صلاح جاهين كتب الكثير من القصائد ومع ذلك لم يفارقه الاكتئاب حتى مات. * لو خسرتِ الكتابة، لو نُزعت إجباراً منكِ ما الذي سيحدث على الصعيد الشخصي أتحدث؟. - اقتني الدفاتر الصغيرة والأوراق والأقلام بشكل يقترب من الهوس، واكتب عن كل شيء وأي شيء، ربما لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي أستطيع من خلالها أن أضع الحياة في سياق أفهمه، ولو خسرت الكتابة لفقدت شيئاً من توازني، ولضعت في عقلي وأنا أدور في حلقات مفرغة من الهجس، والغالب أني سأستبدل الحرف المكتوب بالثرثرة.. والثرثرة تهبط بقيمة الكلام، أرجو أن لا أخسر الكتابة. * دوماً نكتب من أجل أن ننسى، ودوماً نردد ذلك ونريده، هل غاب عن وعينا وعن بديهتنا أن فعل الكتابة هو في الأساس فعل مضاد للنسيان؟. - نكتب لكي نتخلص، من هاجس من فكرة من حكاية من ماضٍ من قلق من حلم كُتِب له أن يولد مخذولاً، من انتظار التصق بأيامنا عنوة، من لحظة ضربت جذورها في أعماق الزمن لتكتسب حصانة ضد النسيان، فعل التخلص ذاته يأتي بأشكال متعددة، ربما بالرثاء أو محاولة التفكيك وإعادة الفهم أو بالصراخ أو بالرقص أو عداه ، كل ذلك يتيح لنا أن نزيح بعضاً مما يؤرقنا من الذاكرة إلى الورق لنكتسب شعوراً وهمياً بالنسيان يسهل تصديقه، أليست أحلام مستغانمي من قالت" الورق مطفأة للذاكرة"؟ ربما كان الأمر كذلك. * قُلتِ"طول البحث يميت نصف الأمنية والخيبة تميت النصف الآخر"كيف نستطيع إذاً أن نحلم وهل شكل أمنياتنا الأمثل لا يأتي إلا بعد الموت لأن كفن الكتابة حالة من اللاجدوى ؟. - هذه المقولة تناسب زمن الخيبة على وجه التحديد، ولغالب نصوصي فصول تناسبها، الأمر أشبه بالمعاطف الشتوية التي تختفي معظم فصول السنة وتظهر في موسمٍ بعينه. ولا بد من زمن للخيبة ولابد من زمن للوعد، ولابد من الحلم! ليس بوسعنا إلا أن نحلم وإن نشدنا الراحة في شيء من اليأس، تلك خديعة لا أكثر، وشكل أمنياتنا الأمثل يجيء في زمن نبيل لابد وأن يصافحنا يوماً. الأكفان لا تكون إلا بعد عقب موت محقق لا يأس يحاول خنق أمنية عنيدة. * ماذا بعد "نقرات على أصابع البيانو" وبين الحنين والشتاء كيف تعيش خلود؟ - ككل الناس، أركض في محاولة لتحقيق شروط العيش المعتادة، وفي أوقات ما سأنسحب من هذا الماراثون لأمارس عبث الكتابة والموسيقى في محاولة لخلق عالم خليق! ثم أعود. ال"نقرات على أصابع البيانو" وهبتني تأشيرة دائمة لدنيا الورق، لثرثرة هادئة طويلة وأظن أنني سأستخدمها كثيراً في قادم أيامي.. ولا أعتقد أن هناك ما هو أجمل.