كلما كانت السيرة الذاتية قراءة في مسيرة حياة.. بما يتجاوز قلق التحفظ أو تحاشي القضايا الإشكالية.. كانت أقرب لملامح الكشف وهي تشد القارئ الباحث عما خلف مسارب الحياة ودروبها ومحطاتها. كنت أبحث في طيات قافية ابن إدريس عن أزمنة بعيدة تتدرج بنا لقراءة مشهد لم يقرأه جيلنا، ليعبر بنا إلى زمن مختلف حيث هبت عواصف التحولات الكبرى، التي أخذت تشعل الاحداق وتحرك حماس الشباب بحثاً عن ذواتهم، وهي تستدرجهم إلى وعي يتجاوز حدود قرية طينية تجاهل الزمن وجودها طويلا بين اطراف الصحراء وسفوح جبال طويق عند الكتاب الغربيين، السيرة الذاتية كشف وتعرّ. ويعتبرها كثيرون من الأدب الوافد، وليس لها في تاريخ العرب سوى ملامح لايمكن الاطمئنان لها باعتبارها شهادة على الذات، قدر ما هي ملامح رحلة قد تنحاز أكثر لبراءة الذات في مرحلة من العمر لم يتبق فيها سوى الدروس التي عبرت، والقضايا التي كانت، والمحطات التي مرت، والايام التي أذاقت العلقم وبعض ظلال الحقيقة. وفيما تيسر لي الاطلاع عليه من أدب السير، وأحاديث الذاكرة لبعض الشخصيات العربية.. لم أجد ملامح سيرة ذاتية كاشفة سوى لدى الفيلسوف عبدالرحمن بدوي، وأوراق العمر عند لويس عوض، وشيء من رحيق العمر لجلال أمين.. ولازلت في مرحلة تستهويني قراءة تلك السير باعتبارها تجربة حياة، وتحولات مراحل، ومسار عمر، وأرواقاً تتساقط كما تساقطت سنين الحياة. لا تخفي الاخفاقات كما لا تنحاز لتصورات تنفى الخلل عنها أو ترسم لوحة جميلة بهية لمسيرة عطرة لا عوج فيها ولا خلل ولا مراجعات. لن نجد كاتب سيرة عربياً يمكن ان يكتب ما هو شبيه باعترافات جان جاك روسو، فالنسق الثقافي والاجتماعي يلقيان بظلال كثيفة على كاتب يحاول ان يكتب سيرته، دون ان يقع في مأزق الادانة أو الاعتراف. لكن ان تتحول السيرة الذاتية الى مجرد كشف بالإنجازات ودفاع عن الذات، وتوزيع صكوك البراءات، واسترضاء الادنى والابعد بكلمات لطف عابرات.. إنما يجعل من هذه السير مجرد هوامش على دروب حياة.. وفي السنوات الاخيرة بدا أن هناك اهتماماً لدى بعض السعوديين من حققوا مواقع أدبية أو صعدوا لمسؤوليات وظيفية أو جمعوا بين الاثنتين في محاولة لتسجيل تجربتهم عبر تقديم اعمال شبيهة بالسير الذاتية، وإن كنت أرى ان هذا الوافد الجميل لم يكثر عرضه إلا بعد ذاك الصيت الكبير الذي خلفه كتاب "حياة في الإدارة" للراحل غازي القصيبي رحمه الله. وفيما قرأت من هذه السير لم أر أن كثيرا منها تمخض عن تجربة يمكن ان ترقى لسيرة ذاتية تعتمد الكشف والانكشاف على الآخر والذات. بل وجدت منها ما تحول الى شهادة للذات أو محاولة لتسجيل لوحة بيضاء بلا رتوش ولا غيوم ولا عواصف سوى ما واجهه الكاتب في بدايات حياته من أوضاع شكلت تحديا كبيرا إلا أن طموحه وجلده لم يعرفا الانكسار!! ولقد كان مبعث سروري دعوة الصديق عبدالعزيز الدريس لحضور حفل تكريم والده الاستاذ الكبير عبدالله بن إدريس، التي نظمها أبناؤه وبعض محبيه، وقُدِّمت فيه سيرته الذاتية "قافية الحياة". ولقد كنتُ ولا أزال أكنّ كثيرا من الاحترام والتقدير لمسيرة الشيخ الاديب عبدالله بن إدريس. لقد انهمكت أبحث عن عبدالله الدريس في قافية حياته، فلم أجد سوى سيرة عادية لرجل يفترض أن يكون غير عادي في ظروف نشأته ومسارات حياته وتقلبات أيامه واقترابه من قضايا كانت جزءا من رصيد ذاكرة لم ينقشع عنها الغبار بعد. ولقد كان الاكثر قدرة على تصوير مشهد متعدد الابعاد، حافل بالحوادث والتطورات، خاصة في مشهد ثقافي عايش من خلاله ثلاثة اجيال بينها من التناقضات والفوارق الكثير. وقد توقفتُ أكثر عند ذلك الجزء المعنون بالأزمنة، وهؤلاء والذاكرة. إلا أن العبور السريع على أزمنة تستحق الكثير من التفاصيل.. أفقد هذين الفصلين اهميتهما.. كنت أتوقع ان أرى تصويرا وتفصيلا للبدايات، ورصدا للظواهر الاجتماعية في قرية نجدية لم تغادر موقعها منذ مئات السنين.. بل لقد كانت تلك الصور والعلاقات وأنماط الحياة حرية بالاستدعاء والتحليل، خاصة أنها لم تكن تختلف عن قرون سابقة ظلت تمضي الحياة فيها رتيبة هادئة.. إلى أن جاء التغيير الكبير في منتصف القرن الماضي الذي شق طريقه لكثير من قرى نجد وبلداتها. كنت أبحث عن تصوير تتسع له نزعة شاعر وفنان وأديب يملك القدرة على التعبير بدقة عن تلك الابعاد حيث التوقف عند تلك المشاهد والرصد لتلك التحولات. الوعي بتلك الابعاد من خلال تلمس المعمى في تلك المراحل في بيئة تعتمل فيها علاقات وبنى اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، هي سيرة مدن طينية لم تكتب بعد، وظلت معاودتها لدى البعض لاستدرار الطرافة أو تصوير حالة شظف وبؤس.. مقاربة أو مفارقة لمراحل التخمة والشبع والتكاثر. كنت أبحث في طيات قافية ابن إدريس عن ازمنة بعيدة تتدرج بنا لقراءة مشهد لم يقرأه جيلنا، ليعبر بنا إلى زمن مختلف حيث هبت عواصف التحولات الكبرى، التي أخذت تشعل الاحداق وتحرك حماس الشباب بحثا عن ذواتهم، وهي تستدرجهم إلى وعي يتجاوز حدود قرية طينية تجاهل الزمن وجودها طويلا بين اطراف الصحراء وسفوح جبال طويق. كنت أبحث عن صراع الافكار وتسرب الرؤى لجيل شاب وجد نفسه في الرياض، التي لم تكن قد غادرت احياءها الطينية القديمة. كيف تشكلت تلك الافكار، وحول ماذا كان يدور الصراع الفكري بين شباب بدا للتو يقف على احداث منطقة عربية كانت توزع الاحلام برحيل الاستعمار وبدايات عصر صعود القومية واليسار ؟! كنت أبحث عن المعمى او المسكوت عنه في مرحلة مختلفة، قبل حلول عصر الهزائم الكبرى. كنت أبحث عن بيروت ليس كمصيف للأستاذ، ولكن كمختبر كبير تتحرك وتصعد منه وتهبط تلك الموجات الفكرية في عصر النشوة والاحلام باهظة الكلفة. كنت كلما عثرت على طرف خيط اتسلل منه الى وعي مرحلة وجيل.. كان الاستاذ يقطعه عند حدود لا تشفي غليلا.. ليعود يوزع دعوى المحبة والصداقة لكل العابرين. ورغم هذه الملاحظات، فقد وجدت بعض المتعة في قراءة صفحات هذا العمل.. ولكني مثل الذي يبحث عن الارتواء ثم لا يجد سوى بضع قطرات من الندى تلطف اجواء هجير العمر. ظل ابن إدريس مسالما في قافية الحياة، يوزع الرضا والتسامح الجميل كعادته بين اطراف القبيلة.. ويدعو بالخير للجميع، وتلك من سجاياه الكريمة. ولأني ارجو أن يكتمل هذا العمل بمراجعته، فلقد لفت انتباهي كثرة الاخطاء المطبعية التي يمكن تداركها في طبعة لاحقة.. إلا أنني توقفت عند قول الاستاذ إن الافكار الليبرالية كانت سائدة في مرحلة الخمسينيات او الستينيات من القرن الماضي، ولعل الاستاذ يريد الافكار القومية بمختلف اتجاهاتها.. فاليسار والتيار القومي يكادان يكونان التيار السائد في تلك المرحلة.. بل كانت الليبرالية المصرية على سبيل المثال هي اكبر ضحايا ثورة يوليو 1952. كما لاحظت ان ثمة خطأ تكرر في تاريخ أورده الاستاذ إبان الحديث عن رحلته الى تنزانيا ، فهو يقول: "في شهر ربيع الاول من عام 1399ه، حيث شكل وفدا بأمر من جلالة الملك فيصل لزيارة تنزانيا.." والذي أدركه جيدا ان الملك فيصل انتقل لرحمة الله في ربيع الاول 1395ه. أتمنى للشاعر والأديب الكبير عبدالله بن إدريس العمر المديد متوجاً بالصحة والعافية وأن يبارك له في أبنائه وأهله ومحبيه..