لن تعرف ماذا قدّم معرض الرياض الدولي للكتاب على مدى سبع سنوات؛ حتى تعرف مستويات تحول الوعي لدى شرائح عريضة من أبناء هذا المجتمع المتحول، والمشدود إلى إشكاليات ثقافية وتنموية، هذا المجتمع الذي يقف على الحد الفاصل - والحاسم - بين ثقافة الانفتاح، وثقافة الانغلاق؛ فكأنما يبحث عن خيار في حالة لا تحتمل الخيار. كثيرون تساءلوا - ولا يزالون يتساءلون - عن مصير ذلك الكم الهائل من الكتب التي استهلكت - أو من المفترض أنها استهلكت - على مدى هذه السنوات السبع . يتساءلون عن حجم التغيير الذي حدث بسببها، وهل يتناسب هذا التغيير مع حجم العناء والتحدي الذي رافق مسيرة المعرض؛ خاصة وأن هوية المعرض لم تأتِ من كونه مجرد تجمع عشوائي للناشرين، وإنما أتت من طبيعة الاختلاف والتنوع الذي تضمنه، ومن مستويات الانفتاح التي رافقت مسيرته، ما جعله علامة فارقة في مسيرة الاشتغال - تغييرا وتطويرا - على مكونات الوعي العام. في السابق، كانت القراءات المتنوعة، والاستشكالية، قراءات استثنائية لأناس استثنائيين يقعون خارج النسق . وكان الخط القرائي العام ينتمي - من قريب أو بعيد - إلى الخط التقليدي، الذي تكون ثقافة النقل هويته العامة. ومن ثم، كان هو - وحده - الذي يتشرعن - حضورا - في الواقع، بينما القراءات الأخرى تقع خارج هذه الشرعية، وخارج هذا الواقع؛ لأن من يقترفها - اجتراء - لا يقترفها إلا من وراء الحدود. كانت الشرعية القرائية، التي تُكتسب من خلال الحضور المادي والمعنوي في الواقع، محصورة فيما يتوافق مع التوجهات التقليدية، تلك التوجهات المأخوذة بهوس الانكفاء والانغلاق. بينما كانت القلة القليلة (= الاستثناء) لا تمارس هذا الاستثناء إلا بشد الرحال إلى معارض الكتاب في العواصم العربية، وخاصة في القاهرة وبيروت والمنامة وتونس. إن استحضار التنوع، وممارسة الانفتاح، وفتح المجال لجدليات الاستشكال الاجتماعي والديني والسياسي والثقافي؛ يعني - بالضرورة - منح كل هذا شرعية في المكان. ما يعني أن الفضاء المكاني لم يعد نافيا وطاردا للتنوع، بل ولا حتى محايدا في ذلك، وإنما على العكس، مساعداً على ذلك من حيث الفعل، ومشرعناً له من حيث المعنى. فالتنوع والاختلاف الذي يعكس رؤية انفتاحية على المباح القرائي، وخاصة في معرض يرتاده الملايين، إنما هو عرض وتقديم ودعم دعائي / إعلاني لمشروعية الانفتاح. هذه المشروعية، بكل ما تعكسه من عمق يعمل - تغييرا - على طبقات الوعي، ومن امتداد أفقي ينعكس على تجليات السلوك العام، أثّرت في عشرات الألوف من الذين اشتغلوا - أو اشتعلوا! - قراءة على هذ المتنوع الثقافي، الذي كان من قبل لا يقع إلا خارج دائرة الممكن، كما كان لا يقع إلا خارج دائرة المشروع. فجمهرة التنوع (تحويله من حالة استثناء / حالات فردية، إلى حالة جماهيرية أو شبه جماهيرية)، بكل ما فيه إشكال واستشكال، يعني أنه بدأ يأخذ طريقه إلى الوعي العام. ولا شك أن هذا سيكون لها أثر كبير في رسم صورة المتغيرات الحاسمة، لا في المستقبل البعيد فحسب، وإنما في المستقبل القريب أيضا. من المهم جدا التأكيد على أن المعرض كحالة، لا يبيح هذا الانفتاح الذي يعكسه بصورة مباشرة فحسب، وإنما هو - أيضا - يعرضه / يستعرضه، يُعلن عنه، يتسامى به ترميزا. إنها مشروعية إضافية، يستحيل أن يهرب الواقع الاجتماعي والثقافي من آثارها المتلاحقة، التي تنبئ بمتغيرات جذرية، وخاصة في هذا الجيل الصاعد، والممتلئ حماسة للانفتاح على كل صور التنوع والاختلاف، بقدر ما هو ممتلئ غضباً وتمرداً على كل من يحاول ممارسة الوصاية عليه، بوصفه قاصرا يجب أن يُحمى بسياج الممنوع والمقموع. في السنوات الأخيرة من موسم الاحتفال بالانفتاح، وربما في هذه السنة تحديدا، لمست حجم المتغير الذي طال وعي كثير من الشباب. كثيرون كنت ألتقيهم منذ عشر سنوات تقريبا، كانوا في غاية الانغلاق، وربما في غاية التزمت أيضا، كانوا محدودي الرؤية، فقراء في الرأي، بسطاء جدا في تصور التاريخ وفي معاينة الواقع، وفي استشراف المستقبل أيضا، هؤلاء عندما ألتقيهم اليوم أجدهم قد أصبحوا خلقا آخر (على الضد من كل ما سبق)، إذ باتوا واعين بذواتهم، مؤمنين بحرياتهم، مستشعرين لخطر الانغلاق عليهم، واثقين بمشروعية غضبهم بسبب جناية التقليديين عليهم، بل وبعضهم ربما أصبح جامحا في هذا المضمار إلى مستويات غير معقولة؛ كرد فعل على الحرمان الثقافي الذي مارسه عليهم دعاة التطرف والانغلاق. عندما تَتحدث مع هؤلاء الشباب الذين تغيروا في وقت قصير - نسبيا -، وتحاول تلمس أسباب هذا التغيير، ستجد - رغم تعدد وتنوع الأسباب - أن الانفتاح القرائي الذي أتاحه معرض الرياض الدولي للكتاب، هو صاحب الدور الرئيس - وربما الحاسم - في هذا التغيير الكبير الذي طرأ على هؤلاء، والذي لايمكن أن يعرف قدره إلا من عرفهم سابقا، وقاسَ حاضرهم الواعد - انفتاحا وتسامحا وتألقا في سماوات المعرفة - بماضيهم الفقير - فقرا مدقعا - من كل هذه الأبعاد الإنسانية، بل الحافل بكل ما يضاد ذلك من جهل وتعصب وانغلاق يكاد يصل حد الاختناق . إن المبهج في كل هذا التغيير الإيجابي، يتضح من خلال كونه لا يعكس حالة فئة محدودة، ولا فئة كانت محايدة أو شبه محايدة في موقفها من الانفتاح، وإنما يعكس حالة واسعة المدى، حالة تكاد تكون عامة. فمن خلال ما رأيت أدرك أن بعض هؤلاء الذين أثْرَاهم وأثّر فيهم هذا المعرض، كانوا قبل عقد من الزمن تقريبا مشاريع واعدة لكائنات متطرفة، لكائنات كانت ستعيث في الأرض فساداً برفعها لراية المحافظة والإصلاح!. ما أحدثه المعرض كان إيجابيا على كل المستويات. لكن عندما نرى المعرض من هذه الزاوية (زاوية دوره في محاصرة رؤى التطرف والانغلاق)، سنجد أنه قام بدور استثنائي - حتى وإن كان غير مباشر - في تجفيف منابع التطرف، وأنه قد انتشل أعدادا هائلة من براثن التطرف، وحمى آخرين من خطر الوقوع في دائرة التبرير - وربما التأييد - لمن يقفون في مواجهة مسيرة التنمية المشروطة - ضرورة - بشرط الانفتاح. لو أننا صرفنا عشرات الملايين على برامج لحماية هذه الأعداد الهائلة من الخضوع لتأثير المتطرفين، أو حتى لزحزحتهم عن مسار التجاوب مع رؤى المتزمتين؛ لم نكن لنصل إلى نتيجة مماثلة لما تحقق بفضل هذا المعرض الذي أشعل - بأنوار المعرفة، المعرفة الحقة؛ لا الجهل المُتعالم - عقول عشرات الألوف من هؤلاء الممتلئين طاقة وحيوية، والذين إن لم يشتغلوا على مسارات الفعل الإيجابي / التنموي، فسيشتغلون - حتما - على مسارات الفعل السلبي / التدميري، وكنا سنتحول - بفضلهم ! - إلى حالة مأساوية؛ فبدل أن ننتج أمثال : طه حسين، وزكي نجيب محمود، وأحمد زويل، وعبدالوهاب المسيري، ونجيب محفوظ..إلخ، سنجد أنفسنا ننتج أمثال : أيمن الظواهري، وابن لادن، والمقدسي، والزرقاوي، وصدام حسين والقذافي..إلخ رموز الإجرام والإرهاب. إنني الآن، وبعدما رأيته - بنفسي - من تحولات في الوعي لدى شرائح عريضة من الشباب، بت أفهم - على نحو أعمق - سبب استماتة دعاة التطرف والانغلاق - وعلى مدى سنوات المعرض السابقة - في سبيل تعطيل هذا المعرض، أو تفريغه من هويته الانفتاحية؛ إذ من الواضح أنهم كانوا يدركون - على نحو واضح، وبفعل ما يمنحه الخطر من قدرة على الاستشعار - أن هذا الانفتاح القرائي سيفتح عليهم أبواب الجحيم التي لن يستطيعوا إغلاقها أبدا، وأن نهاية حضورهم الرمزي والمادي مرهون بهذا الانفتاح. فمتى ما تحرر الوعي العام من أسْر الرؤية الواحدة، فلن يعود إليها أبدا، بل - وهذا هو المترجح - سيناصبها العداء؛ لأنه سيدرك أنها أكلت من عمره الذي لا يستطيع تعويض ما فات منه بأي حال من الأحوال. إذن، المعرض ليس حالة ترفيه في مسيرتنا الثقافية والتنموية، بل ولا في مسيرتنا الأمنية، وخاصة ما يتعلق بإشكالية التطرف والإرهاب، وإنما هو فعل محوري مهم في كل ذلك، ولايمكن لأي فعل أو نشاط آخر أن يقوم بدوره الأساسي في هذا المضمار، حتى وإن كان يمكن أن يُعضَد بغيره في هذا السياق. واستناداً إلى هذه الأهمية التي بدأنا نتلمس آثارها في أنفسنا، وبناء على ما يعنيه هذا الانفتاح لنا في الخارج، إذ أصبح واجهة حضارية لنا على امتداد العالم العربي، أرى أنه لا يجوز أن يتوقف المعرض عند حدود نجاحاته الحالية، إذ الفرصة متاحة لنا كي يكون معرض الرياض هو المعرض الأول (الأول، لا في عدد عناوين، ولا في حجم مشتريات فحسب، وإنما في الانفتاح على فضاءات المتنوع أيضا)، عربياً، وأن يتجاوز غيره بمراحل، خاصة وأن الوفرة المادية التي نعيشها في هذه السنوات تمنحنا القدرة على تحقيق ذلك ؛ فضلا عن الفرصة الكامنة في تراجع كثير من معارض العالم العربي التي كانت لها الريادة في ذلك. وهذا - بلا شك - يخلق فرصة استثنائية لملء هذا الفراغ. إن المعرض الحالي لا يحتاج إلا إلى مزيد من الدعم المادي (بحيث يتم تخفيض سعر استئجار المساحة الممنوحة؛ لضبط ارتفاع الأسعار ولو بلجان تمتلك الخبرة في هذا المجال) وإلى مزيد من الانفتاح؛ فكثير من دور النشر تمارس رقابة ذاتية / احترازية؛ خوف المنع أو المصادرة. فهناك كتب مطبوعة لكثير من هذه الدور، لم تحضرها هنا ؛ مع أنها مراجع لا غنى عنها للباحثين، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول مضامينها وتحيزاتها المعلنة أو المضمرة. إن المنع هو استثناء طارئ (أو يجب أن يكون كذلك)، ولا يجوز أن يحدث إلا لأسباب من المفترض أن تكون قانونية (كالكتب التي تنتهك - قانونياً - حقوق الآخرين، بالشتم أو بالقذف، أو بالاتهام المجرد من الأدلة)، ولا يجوز أن يكون إلا في أضيق الحدود، وأن يكون هو الخيار الأخير، وللعناوين الشاتمة تحديدا. وفي اعتقادي أنه لو توفر مثل هذا الانفتاح للمعرض، وتحقق ضبط الأسعار إلى درجة معقولة؛ فإن دور المعرض سيكون أشمل وأعمق، ومن المؤكد أن عوائده الإيجابية علينا ستكون بعيدة الأثر في الداخل وفي الخارج، وأنها ستغير نظرتنا إلى أنفسنا ونظرة الآخرين إلينا. وهذا هدف إنساني نبيل، وغاية علمية سامية، ومشروع وطني قومي مستقبلي، يستحق أن نتحمل من أجله كثيراً من العناء..