الجامعة العربية وصلت إلى حالة من التردي لم تصل إليه في تاريخها، فوضعها لا يسر احدا وتعاني من ضمورها وما عاد بمقدورها ان تفعل شيئا لا للقريب ولا للبعيد بدليل ان الدم العربي لازال يزهق وهي لا تحرك ساكنا. غير ان السعودية قدمت اقتراحاً يقضي بتشكيل فريق عمل مستقل ومحايد من غير السياسيين "ليبحث بكل تجرد وموضوعية في المسببات التي أدت إلى تكبيل العمل العربي المشترك ووضع الخطط والهياكل للنهوض بالعمل المشترك من جميع جوانبه السياسية والتنظيمية" في إطار المبادئ المنصوص عليها في وثيقة العهد والميثاق التي تم إقرارها في القمة العربية بتونس عام 2004م والتي وقعت عليها الدول العربية كافة حيث كانت الرياض العنصر الرئيس في صياغة محتواها، والتي اكدت على الالتزام بتطوير العمل العربي وإصلاح آليات عمل الجامعة العربية. ان نجاح المبادرة السعودية مرهون بمدى التزام الاطراف الاعضاء بها، وما لم تكن هناك نية جادة في تفعيلها، فإن الوضع سيزداد سوءاً، والنتائج ستكون وخيمة، فالحال لم تعد هي ذلك الحال، وكذلك الانسان العربي والايام حبلى على أية حال ولعل القراءة المحايدة والتقويم الموضوعي لما تضمنته تلك المبادرة من آراء وعناصر يجعلها جديرة بالتفكيك والتحليل. على ان المبادرة جاءت كخطوة مفصلية لكشف الواقع المرير الذي تعيشه الامة العربية، وهي تمثل اعترافا صريحا لما آل اليه الوضع الراهن في العمل العربي المشترك.. ومما يلفت النظر ان مضمون المبادرة انتقل من مفهوم الخطاب العربي المكرور (التبريري والدفاعي) الى طرح يتسم بالشفافية والمكاشفة (نقد الذات). لاشك ان إصلاح الوضع العربي باعتراف الجميع يتمثل في الاصلاح الذاتي، وتطوير المشاركة السياسية، والتكامل الاقتصادي. وقد تضمن الميثاق ضرورة تفعيله وإنشاء الآليات اللازمة وهذا ما حدا بوزير الخارجية بالمطالبة بتفعيل الميثاق الذي يعالج الخلل من اجل ان تتمكن الجامعة العربية من مواكبة المستجدات والمتغيرات الدولية. السعودية عدّت وثيقة العهد والميثاق بأنها "الأساس الأمثل الذي ينبغي الانطلاق منه في تطوير الجامعة العربية شكلا وموضوعاً خصوصاً أنها تستند أساسا على ميثاق الجامعة العربية وعلى الإرادة المشتركة" التي يلتزم فيها الجميع بالوفاء بتعهداتهم كدول عربية، ولكن كيف لك ان تحقق التطور والتقدم والتفاعل للامم. المفكر هيربرت سبنسر، يرى الامور من زاوية للسلوك الاخلاقي والتعاون وتبعية المنفعة الفردية للمنفعة الجماعية، في حين أن جان جاك روسو، صاحب العقد الاجتماعي، يرى ان الاخلاق لا تتحقق إلا من خلال المجتمع الصالح، ولذا فهو يربط بين السياسة والاخلاق، والتي مما يتمخض عنها عقد (قانوني) يرتكز على العقل والضمير. ولكن هل ثمة علاقة بين هذه المبادرة وتلك النظريات الفلسفية؟ ليس بالضرورة ان تكون العلاقة ارتباطا مباشرا، ولكن الفلسفة تسعى الى التحليل والتفسير وفتح باب التأمل استنادا الى المعطيات وربط العلة بالمعلول. لذلك يمكن القول إن (المنفعة الجماعية) هي الركيزة التي تستند اليها المبادرة، وهي الارضية التي تنطلق، منها وفي ذات الوقت هي الغاية التي ترغب في تحقيقها وتكريسها، بمعنى آخر، ان المبادرة تنبثق من مفهوم ربط (السياسي) ب (الاخلاقي) بالارتكاز على العقل والضمير، وهذا يعني في ما يعني إلغاء للنزعة الميكافيلية في الخطاب العربي السياسي، ومحاولة الارتهان الى الاعتراف بالخلل واعلانه كمرحلة أولى لعلاجه. على ان المثير فيها ما يتعلق بالمنطلقين الاساسيين لبناء القدرات العربية والانخراط في المنافسة العالمية وهما: الاصلاح الذاتي وتطوير المشاركة السياسية، لانه لم يعد بالامكان إقامة مجتمع فاعل ومدني في عالم لا يعرف إلا الأوتوقراطية، ولا يؤمن بالآليات الديمقراطية، من مشاركة سياسية واحترام لحقوق الانسان وحرية التعبير، فالقبيلة والطائفة والحزبية والفئوية باتت كلها ادوات لإعاقة أي تنمية ان لم تكن عناصر ضعف ووهن لحال عالمنا العربي. ولعل ما يحدث في دول الربيع العربي دليل على السقوط في هذا الفخ. ولذلك فهذه المبادرة ترنو الى نزع السلطوية ومحاولة دمج الشعوب وتفعيلها في الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي، وبالتالي اخراجها من حالة الاحباط وفقدان الثقة. كما ان الاصلاح الذاتي في عمقه، يرتكز على تصحيح الوضع الراهن. ولا ريب في ان ظاهرة الفساد المستشرية في عالمنا العربي، فضلا عن عدم استقلالية القضاء، كلها ادوات فعّالة لتقويض البناء، ولتكريس سلوكيات غير مشروعة كالرشوة واستغلال المنصب أو النفوذ. غير ان وثيقة العهد لم تلبث ان وصفت واقعنا العربي (بالمرير)، وطالبت ببعث (اليقظة) في نفوس الأمة حتى تكون قادرة (على مجابهة التحديات والمخاطر التي تحملها التطورات الراهنة وتداعياتها المتسارعة). وكأني بها تنادي بنشر ثقافة (نقد الذات أولا)، وبفتح باب المحاسبة والقضاء على البيروقراطية، كما ان محاورها تنزع الى محاولة تحقيق احلام الشعوب عبر التعددية والمشاركة واحترام الرأي المخالف. ولعل ما يميز المبادرة هو بعدها عن الحماسة الآيديولوجية فالقراءة العقلانية لمضمونها تفيد ان ثمة نزعة براجماتية في ما يتعلق برؤيتها إزاء العمل المشترك لإظهار كتلة عربية على غرار مجلس الاتحاد الاوروبي، ولعل الآلية في ما تضمنته كلمة الفيصل حين اشار الى "ان تحقيق أهداف إعادة هيكلة الجامعة العربية ينبغي أن ينطلق من أسس سليمة وقوية تستند أولاً على وضع المبادئ والأهداف بكل تجرد وشفافية لكل المعوقات التي تعترض مسيرة العمل العربي المشترك". بقي ان نقول ان نجاح المبادرة السعودية مرهون بمدى التزام الاطراف الاعضاء بها، وما لم تكن هناك نية جادة في تفعيلها، فإن الوضع سيزداد سوءاً، والنتائج ستكون وخيمة، فالحال لم تعد هي ذلك الحال، وكذلك الانسان العربي والايام حبلى على أية حال..